Thursday, March 5, 2009

عندما فقد العمال نظام التقاعد بإلغاء الوظيفة

عندما فقد العمال نظام التقاعد بإلغاء الوظيفة
محمد علي خوجلي
صدر قانون التأمين الاجتماعي في 1974 ليشمل عمال القطاع الخاص والعمال الذين يشغلون درجات وظيفية بالحكومة. ويقوم تمويل نظام التأمين الاجتماعي على الاشتراكات التي يدفعها طرفان: أصحاب الاعمال (المخدمون) والعمال (المؤمن عليهم). وحكومة السودان ليست طرفاً ورفضت المشاركة صراحة ولكنها عندما تكون (مخدماً) فانها تسدد مساهمات عمالها المؤمن عليهم. فأموال التأمين الاجتماعي هي أموال خاصة وهذه نقطة مهمة.
وجرت تعديلات في قانون التأمين الاجتماعي في 1978 و1979، إلا ان تعديلات 1990 وابريل 2004 لم تأت لصالح نظام التأمين الاجتماعي ولكن لصالح الفئات الاجتماعية المهيمنة اقتصادياً والتي تمكنت بالسلطة السياسية من صندوق التأمين الاجتماعي لتجرده بالكامل من استقلاليته المالية والادارية. وتخلفت الحكومة من نظام التقاعد الخاص بالمصارف والحقته بالتأمين الاجتماعي وكذلك كل الشركات والبنوك التي تملك الدولة كل اسهمها والهيئات العامة بقانون 1925... الى آخر ذلك.
ومن بعد استشراء الخصخصة واعادة الهيكلة تلاحظ الغاء وظائف آلاف عمال الحكومة ثم تحل الشركات الحكومية محل المنشآت التي تمت تصفيتها وتخضع لنظام التأمين ثم مرة أخرى تتم تصفية الشركات... الى آخر ما يضعف نظام التأمين. فالشركات الحكومية بولاية الخرطوم وحدها التي قامت معظمها على انقاض منشآت بلغت 114 شركة تمت تصفية 65 منها بنسبة 67%. مثلما نلاحظ كيف يتم تحويل العمال من قانون المعاشات العامة (معاشات الحكومة) الى قانون التأمين الاجتماعي (معاشات القطاع الخاص) قبل الغاء الوظائف(!)
ويتحول نظام التأمين الاجتماعي عملياً الى نظام شبه حكومي دون ان تملك الحكومة فيه شيئاً إلا منح وزارة المالية الشهرية لمعاشيي التأمين(!) والحقيقة ان القطاع الخاص يتحمل اثار السياسات المالية والاقتصادية للحكومة ومنها الغاء الوظائف وهذا امر محير.
لكن المحير اكثر ان كل الدول النامية منحتها المؤسسات المالية الدولية حوافز ودعومات نقدية كبيرة لمواجهة الغاء الوظائف بسبب الخصخصة واعادة الهيكلة وما توصي به تلك المؤسسات وما تقدمه من وصفات.
فهل تنفذ حكومة السودان سياسات المؤسسات الدولية، ادوات الرأسمالية الدولية مجاناً، ولوجه الله؟!
وصندوق التأمين الاجتماعي دفع مكافآت من دفعة واحدة لعشرات ومئات الآلاف من العمال الذين الغيت وظائفهم. وهذه المبالغ ليست تعويضات عن الفصل بل هي اموال العمال المستقطعة ومساهمات مخدميهم ترد إليهم. ويتم ردها بعد خصم المصروفات الادارية فاستثمار الصندوق لاموال العامل لتسع عشرة سنة لا يغطي

مصروفاته الادارية(!)
وابتدع نظام التأمين الاجتماعي باثر الاشراف السالب عليه نظام التقاعد بالغاء الوظيفة خدمة للحكومة واطلق عليه معاش الفصل بقرار وزاري يموله القطاع الخاص!! وكان شرطه واحداً: اثنيى عشرة سنة اشتراك ولا يهم ان يكون مستحق المعاش في الثلاثين من عمره. وكرس قانون التأمين الاجتماعي بذلك تمييزاً بين المؤمن عليهم بحجة ان المعاش (مؤقت) وهي حجة مردوده عليه فما دام المعاش مؤقتاً فلماذا يتم اشتراط فترة اشتراك، انه يكون مستحقاً لكل عامل في الخدمة المستديمة.
وربط الصندوق ذلك المعاش لالاف العمال الذين تحولوا من ممولين للنظام الى معاشيين بقرارات من الحكومة. والمعلوم ان هناك حزمة من الحلول على نطاق العالم لمواجهة الغاء الوظائف، قبل الالغاء وبعده. فقبل الالغاء يمنح العمال اجازات طويلة مدفوعة الاجر مع دعم مشروعاتهم او تخفض مدة الاشتراك المستحق عن المعاش الاختياري.. الى آخر. وبعد الالغاء هناك نظام المساعدات الاجتماعية الذي تموله الحكومة أو نظام معاش البطالة المؤقتة..
(وارجو أن نذكر ان حكومة نميري وحكومة الصادق المهدي كانتا تدفعان مرتبات عمال النسيج السوداني، وهو قطاع خاص!! حتى صدور القرار الجمهوري باغلاق المصنع وفصل عماله)
والواقع ان العمال الذين منحوا معاش الفصل بقرار وزاري تعاملوا معه كدخل اضافي وليس معاشاً مؤقتاً من بعد التحاقهم بوظائف جديدة وحاقت اضرار بأفراد الاسر ونظام التأمين لضعف الوعي بالحقوق الذي ينتشر بين النقابات وكل المهتمين بالحركة العمالية والمدافعين عن حقوق الانسان الاقتصادية والاجتماعية وليس بسبب العمال وحدهم.. وهكذا يخرج كل يوم مئات العمال من نظام الحماية الاجتماعية.
ثم قامت وزارة الرعاية والتنمية الاجتماعية لتحل محل وزارة التخطيط الاجتماعي عند اعادة هيكلة الدولة مع بداية برنامج الولاية الثانية للرئيس. وبدأت مسؤولية الوزارة الجديدة في (الاشراف والرقابة) على الصناديق الاجتماعية ومنها صندوق التأمين الاجتماعي وبرق امام العيون شعار «نحو التحول لنظام الضمان الاجتماعي» هو برق سريعاً ما اختفى ليزداد الواقع سوءاً، فلا تحقق جزء من الضمان الاجتماعي ولا تم الاحتفاظ بحقوق العمال المكتسبة قبل ذلك الشعار (نظام مخصصات لشروط الخدمة).
وفي العام 2002 أطلق وزيرة الرعاية والتنمية الاجتماعية الاستاذة سامية أحمد محمد بعد دراسات وحوارات وأوراق عمل وتناول مكثف حول الضمان الاجتماعي ومؤسساته مقترحات المرحلة الأولى واجبة التنفيذ منذ 2002 أي قبل تعديلات قانون التأمين الاجتماعي في مارس 2004 وهذه ايضاً مسألة مهمة للغاية ان من بين خطة المرحلة الأولى نقلاً عن تقرير الوزير جاء ما يلي:-
1 - ادخال نظام المساعدات الاجتماعية وهي سلة واسعة من الميزات والمنافع تمول من الخزينة العامة ومن الاشتراكات والزكاة وتشمل العلاوة العائلية.
2- تأسيس ادارة ضمن صندوق التأمين الاجتماعي وصندوق المعاشات لادارة نظام تأمين البطالة المؤقتة ويسمى ادارة المعاشات المبكرة يلحق به المعاشيون الذين يتقاضون معاشات ولم تبلغ سنهم سن الشيخوخة (60 عاماً) ولم تلحق بهم مخاطر العجز والوفاة. وتوفر موارد هذه الادارة من الاشتراكات وحصة من المال المرصود لمعالجة اثار الخصخصة في الموازنة العامة للدولة.
3- الغاء نظام التقاعد بالغاء الوظيفة او بند التعويض بربع المدة لبلوغ سن المعاش المرتبط به، وعدم منح معاش إلا بعد بلوغ سن الشيخوخة أو في حالات الوفاة والعجز الكلي.
فماذا حدث منذ العام 2002؟
لم يتم ادخال نظام المساعدات الاجتماعية. ولم تؤسس ادارة المعاشات المبكرة (بديل التقاعد بالغاء الوظيفة) والانجاز الوحيد هو الغاء نظام التقاعد بالغاء الوظيفة منذ مطلع ابريل 2004. هذه هي المشكلة التي تواجه عمال البريد اليوم وستواجه كل الذين سيتم الغاء وظائفهم.
ان مطلب عمال البريد باضافة سنوات خدمة افتراضية لاستحقاق المعاش لم يطرحه عمال البريد الملغاة وظائفهم خلال الفترة 1995 - مارس 2004 حيث اصبح استحقاق العمال للمعاش في حالة الفصل بقرار وزاري بالمادة (63) من قانون التأمين الاجتماعي يستوجب:-
(1) اشتراك العامل بالنظام لعشرين سنة.
(2) بلوغ سن الخمسين
وبخلاف ذلك فانه يتم طرد المؤمن عليه من (الضمان الاجتماعي) ويمنح مكافأة من دفعة واحدة، أي ترد له أمواله ناقصاً التكلفة الادارية للصندوق.
ومطلب عمال البريد باضافة سنوات خدمة افتراضية لصالح استحقاق المعاش يسنده الآتي:
أولاً: الغاء نظام التقاعد لالغاء الوظيفة سبق ايجاد نظام تأمين البطالة بما يخالف القانون وروح التكافل ومبادئ نظام الضمان الاجتماعي.
ثانياً: الغاء بند التعويض بربع المدة (سنوات افتراضية لاغراض المعاش) سبق ادخال نظام المساعدات الاجتماعية وادارة المعاشات المبكرة.
ثالثاً: ان سن التقاعد القانوني بموجب عقد العمل هو ستين سنة والمخدم (هيئة البريد - الحكومة) ومشتري المنشأة الجديدة (صندوق استثمار التأمين والمعاشات وآخرين) هم اصحاب المصلحة في انهاء عقود العمل بالغاء الوظائف، ولا يشترط ان تكون العقود كتابة. وبالضرورة فان من واجب اصحاب المصلحة تخفيف آثار الاضرار التي ترتبت على الغاء الوظائف بدفع قيمة سنوات الخدمة الافتراضية لصالح العامل وهي تدفع لصندوق التأمين الاجتماعي.
رابعاً: عمال البريد لم يتقدموا باستقالات عن العمل كما انهم لا يحددون تاريخ الغاء الوظائف.
خامساً: عمال البريد الذين الغيت وظائفهم قبل 2009، وهم اكثر من ألف طبق عليهم قانون التأمين الاجتماعي (بشروط مختلفة) ومادام النظام واحداً والمخدم واحداً والجهة التي تقرر الغاء الوظائف واحدة فان العدل يقتضي اعتماد سنوات خدمة افتراضية (ربع المدة المتبقية لبلوغ سن المعاش) لتقليل اثار أي اضرار على العمال.
سادساً: عملية الغاء وظائف عمال البريد مستمرة منذ 1995 ووضع هيئة البريد ضمن المؤسسات الخاضعة للخصخصة لم يصدر في العام 2009 بل في العام 1997.سابعاً: العمال الذين بلغوا سن الخمسين ومدة خدمتهم اكثر من اثني عشر عاماً وحتى تسعة عشر عاماً، أي اقل من عشرين سنة لن يستحقوا أي معاش إلا باضافة سنوات خدمة افتراضية.
ومعلوم ان منافسة هؤلاء في سوق العمل لا أمل فيها.. بل ان اعلانات الوظائف الشاغرة تشترط في معظمها ألا يتجاوز عمر مقدم الطلب اربعين عاماً...(!) ومنح هؤلاء مكافأة يعني خروج افراد أسرهم نهائياً من نظام الحماية الاجتماعية.
ان اصحاب الاعمال والعمال المؤمن عليهم والمعاشيين والمنتفعين يتضررون يومياً من سياسات الحكومة ومن سياسات صندوق التأمين. وكما حملتهم الحكومة اثار سياساتها المالية والاقتصادية فان صندوق التأمين يحملهم نتائج عجزه وقصوره فالدراسة الاكتوارية لصندوق التأمين 2003 تورد الملاحظات والحقائق التالية:-
(‌أ) فشل ادارة الصندوق في انجاز اهم عوامل تقوية المركز المالي للصندوق وهو تحصيل الاشتراكات
(‌ب) ضعف العائد السنوي من استثمارات الصندوق بسبب ارتفاع نسبة الاموال المستثمرة في الاراضي والعقارات التي يكون عائدها الفوري ضعيفاً.(
(‌ج) النظر في امر تحويل جميع المشتركين من القطاع العام الى صندوق المعاشات اذا كان الصندوقان سيعملان منفصلين.
(‌د) اتضح ان نسبة المصروفات الادارية بلغت 30% من اجمالي دخل الصندوق على الرغم من ان قانون الصندوق ينص على ألا يتجاوز الصرف الاداري 10% وعندما تتجاوز المصروفات الادارية 9% من الدخول المؤمن عليها فان ذلك يعادل 36% من الدخل من الاشتراكات (فاذا كانت 30% فانها تعادل كل الدخل من الاشتراكات!!)
وعلى ضوء كل هذه الحقائق فان التبشير بنظام للضمان الاجتماعي يكون حلماً بعيد المنال. وفي كل السنوات الماضية كان تركيز صندوق التأمين الاجتماعي ليحافظ على وجوده وبقائه هو الضغط على اصحاب الاعمال والتضييق على العمال المؤمن عليهم والمعاشيين والمنتفعين والتنازل عن الاستقلال المالي والاداري للصندوق فهل سنشهد بعد ذلك تفكيك نظام التأمين وخصخصته هو أيضاً؟

No comments: