Thursday, March 5, 2009

قطار الخصخصة السريع.. وسندته أمام هيئة البريد

قطار الخصخصة السريع.. وسندته أمام هيئة البريد
محمد علي خوجلي
شاع مصطلح الخصخصة منذ ثمانينيات القرن الماضي مع تنامي سياسات الليبرالية الجديدة، وتنامي مظاهر إنهيار الاتحاد السوفيتي والدول الشيوعية التابعة- ذلك الانهيار الذي تنبأ به القائد العمالي الشهيد قاسم امين في 5791 حين ظن بعض أدعياء الثورية الذين يسترشدون بالمنهج الماركسي ان المناضل قد فقد عقله! وتحول الى رجل معتوه!!- وشهدت تلك الفترة أيضاً بدايات انقضاض الرأسمالية على نظام (دولة الرفاهية) في دول الغرب الرأسمالي. وهو النظام الذي كان القطاع العام إحدى أهم ركائزه. فقد كانت الرأسمالية تعتبر نظام دولة الرفاهية صمام الأمان ضد «الاضطرابات الاجتماعية» أو كما يكتبون. ومع إنهيار الدول الشيوعية طرح منظرو اليبورالية الجديدة: أن الرأسمالية لم تعد في حاجة لقطاع عام أو ضمان اجتماعي أو تأمين صحي. ومن ثم بدأ الهجوم الكاسح على حقوق العاملين المكتسبة. وانطلق قطار الخصخصة في دول الغرب في اكبر معقلين للرأسمالية، الولايات المتحدة الامريكية وبريطانيا. وبدأت قلاع القطاع العام في الترنح ثم السقوط واحدة تلو الاخرى تحت ضربات الشركات متعددة الجنسيات (الاحتكارات الدولية) تحت دعاوى أن الخصخصة هى: كفاءة التشغيل، وحرية المنافسة، ورخص الأسعار والجودة الأفضل. ومن بعد ذلك جعلت ادوات الرأسمالية الدولية: صندوق النقد والبنك الدولي الخصخصة أحد أهم شروط الاصلاح الاقتصادي في الدول النامية. وعلى الرغم من تعدد أشكال الخصخصة، اثنا عشر شكلاً أو يزيد إلا أن الشائع هو «بيع الأصول» أو بيع القطاع العام لشركة أو عدة شركات او شخص واحد، يطلقون عليه ( المستثمر الاستراتيجي) فيكون من أنواع الفساد السياسي أن يرفع مؤيدو الخصخصة من بين الثوريين الداعمين لتصفية القطاع العام شعار الاشتراكية، إلا اذا كانت من نوع (اشتراكية سرجي مرجي.. انت حكيم ولا تمرجي)!! وفي السودان تم استبدال قطار الخصخصة البطئ ابان الحقبة المايوية الذي لم يعرف الالغاء الجماعي للوظائف، بمعنى الفقدان الجماعي للوظائف بقطار الخصخصة السريع في 2991.. ذلك القطار العجيب والذي يأخذ سندته الآن امام الهيئة العامة للبريد والبرق. والمعروف ان اول قانون لتنظيم خدمات البريد كان في عام 6191 مع قيام مصلحة البريد والبرق والهاتف والتي استمرت حتى عام 1791- وكان الانقلابيون من العسكر المدعومين بقوى سياسية وديمقراطية يهتمون بالاستيلاء على أجزاء مصلحة البريد أو هيئة البريد، حيث توضع في درجة واحدة، مع الاستيلاء على القيادة العامة وقيادات الاسلحة الاخرى، حتى جاءت امبراطورية شركات الهاتف السيار فاختلف الأمر، وهذا من اسباب سطوة الشركات الجديدة. وفي عام 1791 تم فصل مصلحة البريد الى قسمين: مصلحة البريد والبرق والمواصلات السلكية واللا سلكية التي قامت الامبراطورية على انقاضها. وفي 8791 تم تحويل مصلحة البريد الى المؤسسة العامة للبريد والبرق باعتبارها مؤسسة خدمية لا تجارية. وفي 0991 صدر قانون تحويلها الى هيئة عامة تكفلت وزارة المالية بسداد مرتبات العاملين بها بنسبة 001%، لكن ذلك استمر لعام واحد فقط، حيث نقص التزام وزارة المالية في عام 19/29 الى 05%. وهيئة البريد في اعتقادي رمز تاريخي (معنوي) ومن مكاتبها المائة وسبعة وتسعين معالم تاريخية. دولة بريطانيا تحترم الرموز التاريخية، ولذلك فإنها عند خصخصة البريد اقامت برجاً ضخماً في واحد من مكاتب هيئة البريد، ومن عائده يتم الصرف على العاملين بالبريد، هناك لم تلغ الوظائف ولم يحدث ما يعرقل التطور..! وهيئة البريد والبرق في السودان اضافة الى مكاتبها فوق المائة وتسعين تملك أيضاً مائة وسبعة وسبعين منزلاً مشيداً واربع عشرة قطعة ارض سكنية. ولا يختلف اثنان في تدني وتخلف الصورة البريدية اليوم، واية نظرة خاطفة لهيئة البريد تؤكد الشلل التام في حركة الآليات والمعدات، وبالضرورة تراجع الايرادات وتضخم المديونية، وذلك كان من اسباب تجميد الترقيات والبدلات والعلاوات الى آخر مظاهر تدني شروط خدمة العاملين، مما افقد الهيئة الكثير من الكفاءات والكوادر البشرية المميزة. ولكن على من تقع المسؤولية؟ ان عدم مواكبة الاجهزة والمعدات لثورة المعلومات في المجال البريدي لن يكون مسؤولية العمال.. وفشل خطة التنمية في اطار الاستراتيجية القومية الشاملة بريدياً.. وبيع اسطول الهيئة الناقل ليس من مسؤوليات العمال.. وان تتجه إدارة الهيئة لزيادة الايرادات عن طريق الاستثمار العقاري.. أو أن تقوم بتأسيس الشركة البريدية للاستثمار والتجارة المحدودة مساهمة مع بعض شركات القطاع الخاص وتطلق اسطولاً ضخماً من العربات التجارية لنقل البضائع والسلع الى جانب البريد، وتكون الشركة من الشركات الخاسرة ليس مسؤولية العمال.. وأن يتم انشاء معهد للبريد والبرق بمساعدة اتحاد البريد العالمي ثم يصبح المعهد استثماراً عقارياً باستئجاره لاحدى الوزارات لاربع سنوات دون سداد للايجار! ثم بيع العقار لذات الوزارة لتغطية استحقاقات العاملين الذين الغيت وظائفهم في مارس 4002 لن يكون من مسؤولية العمال. ان اول سندة لقطار الخصخصة السريع في هيئة البريد كانت في 5991م، عندما الغيت وظائف تسعة وخمسين عاملاً. وفي اكتوبر 7991م صدر القرار الوزاري رقم «815» الذي نص على اضافة الهيئة لقائمة مرافق القطاع العام واجبة الهيكلة، وفي ذات العام اغلق واحد وخمسين مكتباً بريدياً مع إلغاء وظائف مئتي عامل. وفي مارس 4002م الغيت وظائف سبعمائة وثلاثة عشر عاملاً، ثم لحق بهم اربعة وستون عاملاً ليتجاوز فاقدي الوظائف الالف.. ويبدو أن مطلع مارس 9002م سيشهد السندة الاخيرة بإلغاء وظائف أكثر من ألف آخرين، وخصخصة البريد تأخذ شكل (بيع الاصول) الى شركة او عدة شركات من بينها صندوق الاستثمار الموحد للتأمينات الاجتماعية والمعاشات. انتبهت لمخاطبة العاملين بمكتب بريد وبرق ام درمان وفرعياته لرئاسة مجلس الوزراء في نهاية اكتوبر الماضي، حول الاجراءات اللازمة لتخفيف الآثار الضارة بسبب الغاء الوظائف. وبعث العاملون بصورة من مذكرتهم للهيئة النقابية للعاملين بالبريد والبرق، بما يشير للمسافات البعيدة بين النقابة والعمال، فموضوع المذكرة هو من صميم واجبات النقابة والاتحاد العام لنقابات عمال السودان. وحددت المذكرة المطالب الطبيعية التالية: - تضمين الزيادات المستحقة (علاوات، بدلات) الى آخره في المرتبات. - معالجة الترقيات المجمدة خلال العشر سنوات الاخيرة قبل حساب الاستحقاقات. - المعالجات الضرورية لتمكين ربط المعاشات للعمل باضافة سنوات لاغراض المعاشات، وهى جميعها حقوق مكتسبة أو ذات علاقة بتخفيف الآثار الضارة الناتجة عن إلغاء الوظائف الجماعي. وهذه الآثار أصلاً سببها مصادرة حقوق مكتسبة بقوة القانون (تعديلات قوانين التأمين الاجتماعي والمعاشات في ابريل 4002م). ولا ضير في تحرك النقابة من بعد ذلك وتبنيها لهذه المطالب المشروعة، واضافة التعويض عن الفصل أسوة بحالات اخرى، وهى أيضاً في مطلبها لا تتجاوز ما قررته الاتفاقيات الدولية. فالمادة (31) من الاتفاقية رقم (851)، مؤتمر العمل الدولي، هى اتفاقية ملزمة لجمهورية السودان باعتبارها عضواً في منظمة العمل الدولية. وبالدستور القومي الانتقالي فإن الحقوق التي قررتها المادة (31) هى من الحقوق الدستورية، لكن الحقوق الدستورية في الواقع، بما في ذلك وثيقة الحقوق مجمد العمل بها لوجود نص دستوري آخر يقضي بسريان القوانين قبل اجازة الدستور الى حين مؤامتها مع الدستور. والنص بصورته وافقت عليه جميع القوى السياسية الحاكمة والمعارضة، وأجيز بالاجماع لا بالاغلبية الميكانيكية للمؤتمر الوطني!! والمادة (31) تلزم صاحب العمل عند القيام بعمليات إنهاء الاستخدام لاسباب ذات طابع اقتصادي او تكنولوجي او تنظيمي.. الى آخر، بتزويد ممثلي العمال (النقابة) بكل المعلومات المتصلة بذلك، والفترة التي سيجري اثناءها ذلك (لاحظ انه في حالة هيئة البريد ممتدة ما بين 5991-4002م) كما أنه من الواجب الاتفاق مع النقابة على كل الاجراءات التي ينبغي اتخاذها، ومنها الاجراءات اللازمة لتخفيف الآثار الضارة الناتجة عن إلغاء الوظائف. إن مطالب عمال البريد قانونية، ومطلب التعويض النقدي نصت عليه المادة (21) من ذات الاتفاقية الدولية، حينما قررت دفع تعويضات أو إعانات اخرى نقدية، محددة المقدار، بين أمور اخرى، على أساس طول مدة الخدمة ومستوى الأجر، وأن هذه التعويضات والإعانات لا علاقة لها باشكال الضمان الاجتماعي الاخرى، والتجربة العملية في السودان ومن دون تعديل للقوانين سارت على نهج الاتفاقيات بالتراضي، ومن بين ذلك التعويض عن الفصل. النقطة الوحيدة التي ستكون محل جدل قانوني، هى مسألة اضافة عدد من السنوات لتمكين العمال من استحقاق المعاش، وهذه المسألة لم يطالب بها العاملون أو النقابة عند الغاء الوظائف في 5991م و7991م ومارس 4002م، فما هو السبب؟ المعلوم أن قوانين المعاشات (غير الخاصة) تضمنت تعديلات في 1/4/4002م، في ما يتعلق بشروط استحقاق المعاش بتعديل فترة الاشتراك التي يستحق عنها المعاش من (اثني عشر عاماً) الى (خمسة وعشرين عاماً) مرة واحدة، وكذلك السن القانوني للتقاعد من خمس وأربعين الى خمسين سنة. وواقع عمال البريد في سندة قطار الخصخصة اليوم من حيث انطباق شروط المعاش يفيد: ? إن حوالي 44% من العاملين تنطبق عليهم شروط استحقاق المعاش بعد التعديل. ? إن حوالي 65% من العاملين لا تنطبق عليهم الشروط، إما أنهم لم يكملوا 52 سنة خدمة، وهنا لب المشكلة، خاصة ان كثيرين مدة خدمتهم اربع وعشرين سنة، أو لم يبلغوا السن القانوني وهذه أخف. ? أما النساء اللاتي لا تنطبق عليهن شروط استحقاق المعاش، فهن حوالي 23% من العاملات. والعدل والإنصاف يقتضي التدقيق في حالة هؤلاء العمال، وانه يجب ألا تسقط الحقائق التالية: 1/ إن برنامج خصخصة البريد متواصل منذ 5991م، وربطت للعمال معاشات بالقانون قبل التعديل. 2/ تضرر العمال بايقاف (معاش الفصل الوزاري) عملياً بتعديل شروطه، حيث كان شرطه الوحيد، اشتراك اثنتي عشرة سنة بصرف النظر عن السن. 3/ إن هؤلاء العمال لم يتقدموا باستقالاتهم عن العمل. 4/ إن هؤلاء العمال لم تكن لهم يد في تحديد تاريخ الغاء وظائفهم. 5/ إن المعاش أصلاً ليس للعامل بل لافراد اسرته، والصندوق القومي للتأمينات الاجتماعية هو صندوق تكافلي، وتمسك الصندوق بدفع المكافأة. وحرمان العمال من المعاش يهزم في الممارسة جوهر مبادئ التأمينات الاجتماعية. وكان الله في عون العمال الضعفاء.

No comments: