Saturday, May 31, 2008

مكاتب العمل المنهكة .. وحقوق العاملين المهدرة ..!! (1-2)

مكاتب العمل المنهكة .. وحقوق العاملين المهدرة ..!! (1-2)

محمد علي خوجلي

وزارة العمل في أية دولة نامية تطرح شعار التنمية البشرية والاقتصادية وتكون من الوزارات الهامة و(الكبيرة) بالرغم من آثار العولمة الاقتصادية وخلافها والتي منها أن بعض دول العالم لا توجد بها وزارات للعمل .. وفي السودان شهدنا في السنوات الأخيرة قيام منشآت عديدة خاصة بالتدريب ومكاتب ووكالات للاستخدام وعشرات المكاتب (94) المتخصصة في استقدام العمالة الأجنبية بخلاف الوافدة من دول الجوار .. الخ وأوضاع السودان مختلفة واتفق الناس أنه يحتاج للحكومة المستقرة و(الحكم الرشيد) ولا وسيلة للاستقرار ورشاد الحكم إلا باحترام السلم الاجتماعي والعدالة الاجتماعية ومن مفاتيح ذلك وزارة العمل القوية ومكاتبها القادرة والمؤهلة للمساهمة في أداء وظائفها التخطيطية : سياسات الاستخدام وسياسات التدريب والتوجيه المهني والتلمذة الصناعية ، وسياسات المرتبات والأجور ، وتنظيم سوق العمل والمفاوضات الجماعية .. الخ ومهماتها التنفيذية في حسم النزاعات الفردية والجماعية والأمن الصناعي والوقاية من إصابات العمل والأمراض المهنية .. الخ . ولا يمكن الفصل بين قانون العمل ومكاتب العمل ..
إن مكاتب العمل هي أحد أهم آليات تنفيذ قانون العمل الذي يعتبر من أهم القوانين والذي يتأثر به ملايين الأفراد في القطاعات الاقتصادية المختلفة . وترتفع يومياً أعداد العمال الخاضعين للقانون بمقتضى السياسات المالية والاقتصادية للدولة وتتزايد تبعاً لذلك مسؤوليات مكاتب العمل في ولايات السودان المختلفة بسبب مستويات الحكم . كما أن سياسات التحرير والسوق الحر والمتغيرات السياسية والاقتصادية والاجتماعية تفرز واجبات جديدة على إدارات العمل وتنتج عنها أيضاً مشاكل جديدة أصبحت لها رؤى جديدة وعالمية ومن ذلك – مثلاً – صعوبة الفصل بين تنظيم العمالة الأجنبية واحترام الحقوق الدولية لتلك العمالة . مثلما تواجه إدارات العمل أنواعاً جديدة من النزاعات الجماعية والفردية بأثر الشركات متعددة الجنسيات . وعرف السودان أيضاً في السنوات الأخيرة تمدد ما يسمى بالمنظمة الوطنية التطوعية (أكثر من خمسة ألف منظمة) هي في الحقيقة منشآت تستخدم آلاف العاملين وشكلت سوقاً جديداً للعمل .
وللعاملين بتلك المنظمات قضاياهم ومعظهم يعيشون أسوأ أنواع الاستغلال خاصة وأن بعض المسؤولين عن الإدارات التنفيذية جعلوا منها طريقاً للثراء السريع (وسأعرض لذلك لاحقاً).
وإذا كان المشرع في السودان قد اتبع النهج الحديث في تجميع كل القوانين العمالية في قانون واحد – وهو منهج إيجابيأطلق عليه مشروع قانون العمل الإطاري فإنه بالضرورة وتحت ظل المتغيرات (اتفاقيات السلام المتعددة والتعديلات الأساسية في مستويات الحكم) .. يلزم إيلاء وزارة العمل ومكاتبها الاهتمام الكافي وبيان أدوارها ومهماتها ووضوح علاقاتها مع الوالي من جهة ووزارة العمل القومية من جهة أخرى.
الجدول (ج) بالدستور القومي الانتقالي حدد الاختصاصات التنفيذية والتشريعية الحصرية لكل ولاية من ولايات السودان ومما له علاقة بالموضوع في ذلك الجدول :
*
الرعاية الاجتماعية بما فيها المعاشات .
*
الخدمة المدنية على مستوى الولاية .
*
تعيين وتوظيف عاملي الولاية وتحديد صلاحياتهم ودفع مرتباتهم .
*
وضع شروط العمل وساعات العمل وأيام العطلة داخل الولاية .
*
إنفاذ القوانين الولائية .
ومن الاختصاصات المشتركة بالجدول (د) الترخيص للتصنيع . ومن ضمن القوانين الولائية قانون العمل . والجدير بالذكر أن مشروع قانون العمل الإطاري أنجز للمرة الأولى في العام 2005 وأعيد النظر فيه مرة أخرى بعد إجازة الدستور القومي الانتقالي وأصبح مشروع قانون العمل الإطاري للعام 2006 ونحن الآن على مشارف العام 2008 ويتعثر رفعه للهيئة التشريعية القومية وذلك من أقوى الدلالات على ضعف وزارة العمل وضعف الحركة النقابية السودانية إلى جانب ضعف الحركة العمالية واحزابها (!) التي تقبل بقانون يتضرر منه العمال صباح كل يوم .. (!)
بالرغم من ذلك فإن هناك بعض المجالس التشريعية الولائية وضعت قوانين العمل الخاصة بها كولاية البحر الأحمر مثلاً . أما ولاية الخرطوم التي تفوق الولايات الأخرى من حيث إعداد المنشآت وإعداد العاملين فهي في انتظار إجازة مشروع قانون العمل الإطاري وإلى أن يتم ذلك تتواصل عذابات العاملين بولاية الخرطوم.
ونص دستور ولاية الخرطوم في الفقرة (1) من المادة (100) على :
تضع الولاية استراتيجيات وسياسات تكفل العدالة الاجتماعية بين أهل الولاية كافة وذلك عن طريق تأمين سبل كسب العيش وفرص العمل .
ونظم الدستور في المادة (103) موضوع الخدمة المدنية والتي تقرأ :
1.
الخدمة المدنية هي جماع العاملين بالولاية لتنفيذ الوظائف الموكلة إليهم وينظم القانون واجباتها ومبادئها .
2.
تلتزم الولاية العدالة في التعيين في الوظائف العامة الولائية وتكون الكفاءة العلمية والعملية هي الأساس لشغل وظائف الخدمة المدنية ، ولا يجوز التمييز ضد أي مواطن سوداني مؤهل بسبب الدين أو العرق أو الجهة أو الجنس أو انتمائه السياسي .
3.
ينظم قانون الخدمة المدنية الولائي الوظائف الولائية وواجبات الخدمة المدنية كما ينظم شروط خدمة العاملين بها وحقوقهم ومحاسبتهم.
إن حكومة السودان (كمخدم) تلاعبت بحقوق العاملين وكرست التمييز فيما بينهم ، وخالفت ما استقرت عليه الخدمة المدنية منذ تأسيسها على حقبة حكومة المستعمر البريطاني من تقاليد راسخة في تنظيم العمل والهياكل الراتبية والتدرج في الأجور والتدريب والترقيات .. الخ وهناك عدة مظاهر لذلك ذات علاقة بموضوع المقال ومن ذلك : تغيير طريقة الاستخدام عن طريق فصل عمال في الخدمة المستديمة ثم إعادة استخدامهم مرة أخرى وأحياناً في ذات الوظائف والمهن على أساس العمل اليومي أو بعقودات جديدة محددة الأجل .. ومن تلك المظاهر التعيين لثلاث شهور ثم فصل العامل وإعادة تعيينه مرة أخرى وفصله بعد ثلاث شهور .. ولا هدف من كل ذلك ، بخلاف حرمان العاملين من استحقاقاتهم القانونية . فأي تهديد للسلم الاجتماعي أكثر من هذا ؟!
أما المظهر الثالث فهو التعيين عن طريق العقودات الخاصة والتي هي في الحقيقة مكآفات (حزبية) لأعضاء وأصدقاء حزب الحركة الإسلامية الحاكم للذين عملوا خارج البلاد قبل الانقلاب ، والإغراء بالعودة للبلاد للمساهمة في إنفاذ المشروع الحضاري ومنحهم مرتبات وامتيازات فوق وخارج الهياكل الراتبية المعمول بها وقد بلغت أعداد هؤلاء بولاية الخرطوم ما يقارب الألفين ، تتراوح امتيازاتهم ما بين امتيازات الوزير القومي ووزير الدولة (وجاء أنه بدأ منح هؤلاء استحقاقاتهم !!).
ومع ضعف وارتفاع تكلفة التدريب المحلي وقلة أو تلاشي البعثات الخارجية (!) ظهر ما يعرف بالكورسات قصيرة المدى في دول مختلفة ومنها الدول العربية وهذه الظاهرة فتحت أبواباً جديدة لم تعرفها البلاد من قبل ومنها أن عشرات النساء يمكنهن الالتحاق بتلك السفريات الجماعية ضمن تكلفة الكورسات الجماعية القصيرة (!) بالرغم من أنهن لا علاقة لهن بتلك الوزارة أو المصلحة أو الديوان.
والمظاهر الغريبة لا حصر لها ولم تسلم منها التنقلات والترقيات حيث يتم إهدار حقوق العاملين في (الأقدمية) و(التأهيل) .. الخ واختلط الحابل بالنابل وانتشرت الشركات متعددة الانشطة والأغراض في التجارة والتصدير والاستيراد وأيضاً في مجال الخدمات ، خدمات الاتصالات وخدمات الأمن الخاص .. الخ ليرتبك سوق العمالة ويتم إلغاء وظائف ونشهد شروط عمل لم يكن متعارف عليها في البلاد . إنها الرأسمالية الجديدة والتي هي ليست حصراً على حزب الحركة الإسلامية الحاكم ..
إن مسلك الحكومة كمخدم ومناهجها الغريبة في سياسات الاستخدام وإنهاء الاستخدام والمرتبات والأجور والترقيات .. الخ تأثر بها العاملون في الحكومة ومن بينهم العاملون في وزارة العمل كما تأثر بها كثير من أصحاب الأعمال في القطاع الخاص أو غير الحكومي وصاروا أيضاً يتلاعبون بالعمال واستحقاقاتهم القانونية . ننظر إليهم والأيادي مغلولة وإدارات مكاتب العمل منهكة وهي أيضاً فاقدة لحقوقها . أما القوى السياسية والناشطون – كما يقولون – في مجال الدفاع عن حقوق الإنسان فلهم اهتمامات أخرى بخلاف قانون العمل وآليات تنفيذه وأحوال العمال المزرية وحقوقهم القانونية المهدرة ومن بين الصور المحزنة والتي لا حصر لها :
*
ساعات العمل اليومية الفعلية تتحول إلى اثتني عشر ساعة بدلاً من ثمانية عند بعض المخدمين رغم أنف قانون العمل .
*
أجر المرأة العاملة والعامل الأجنبي نصف أجر العامل الذكر في عدد من المصانع بولاية الخرطوم ولا يهم ما قرره الدستور القومي أو دستور الولاية أو قانون العمل بالنسبة للمساواة في الأجور وعدم التمييز .
*
عمال في المناطق الصناعية يفصلون من الخدمة بعد إصابات العمل تعرضوا لها بسبب العمل بلا تعويضات أو معاشات.
*
الحد الأدنى للأجور لا يتم تطبيقه والتأمين الاجتماعي الشامل والإلزامي مجرد نصوص في القانون كالتأمين الصحي وإذا تجرأ أي عامل وتحدث عن هذه المواضيع (الخطيرة) يتم فصله تعسفياً وفورياً.
*
عمال يتم إغلاق منشآتهم ويفقدون مصادر أزراقهم ولا يمنحون لا مرتبات ولا فوائد ما بعد الخدمة . وإذا صدرت أحكام قضائية لصالحهم يستأنف أصحاب الأعمال المتخمين بالأموال حتى آخر درجة والعمال يجوعون ويموتون ..
إن السلم الاجتماعي لن يتحقق ومكاتب العمل منهكة .. وحقوق العاملين مهدرة .
إدارات مكاتب العمل مسؤولة عن الرقابة على بيئة العمل وتحسينها في المنشآت المختلفة ، هي آلاف المنشآت . ولا اعتقد أنها تستطيع أداء تلك المهمة لانعدام إمكانياتها والنقص في الكادر البشري . لن يحدث ذلك بأدنى نسبة لأن إدارات مكاتب العمل عاجزة عن تحسين بيئة العمل في مكاتبها .. ننظر : المفتش خلف مكتبة وأمامه عشرات الملفات للتحري في محتوياتها والأدراج تنوء بملفات أخرى في انتظار دورها .. وشكوى العامل قد تستمر شهراً أو يزيد بسبب غياب أصحاب الأعمال فمن النادر أن يتقدم صاحب العمل الشكوى ضد عامل فهناك إجراءات قانونية متاحة له بخلاف ذلك أما العامل فلا سبيل أمامه إلا البداية بمكتب العمل حتى نهاية الطريق الطويل .. الازدحام حول المفتش يصعب وصفه وللتقريب فإن الزائر لا يستطيع رؤية المفتش حتى إذا كان على بعد نصف متر من مكتبه .. محاط بالبشر من كافة الاتجاهات .. وعلى الرغم من خصوصية الشكاوي فأي شخص يستطيع الاستماع للشاكين أقوال شهودهم دون أن يكون طرفاً في النزاع . بالطبع لا توجد أماكن مهيأة لجلوس لهؤلاء . فهل يمكن أن تؤدي تلك المكاتب واجباتها تحت ظل أوضاعها الراهنة .
إن الإجابة القطعية هي لا . ويكفي للدلالة على ذلك أننا طالعنا بين آونة وأخرى في الصحف اليومية خلال العام 2007 أخبار محاكم العمل بالخرطوم وهي تأمر بدفع استحقاقات العمال القانونية تطبيقاً للاتفاقية الجماعية الثلاثية للمرتبات والأجور ومنذ العام 2002 ، أي أن عمر المخالفة التي نظرتها محكمة العمل ولم يكتشفها مكتب العمل المسؤول عن (تفتيش العمل) ستة سنوات . والأكثر غرابة أن من المنشآت التي حكم لصالح عمالها توجد تنظيمات نقابية هي طرف غير مباشر في تلك الاتفاقيات (!) وعندما نتذكر أن نسبة العمال المنتظمين في نقابات لا تزيد عن 10% علينا أن نتصور ما يحيق بالـ(90%) ..
ونواصل

No comments: