Saturday, May 31, 2008

لمؤتمر الخامس للحزب الشيوعي السوداني

المؤتمر الخامس للحزب الشيوعي السوداني

(الوخري) .. حق الطير! 2/2

ابوبكر الأمين محمد

هل سينجح المؤتمر الخامس للحزب الشيوعي السوداني في حل القضايا العديدة التي تواجهه؟ فالقضايا ليست قليلة العدد ولكن أهمها القضايا التي تجاهلها عمداً التقرير المقدم للمؤتمر الخامس أو طرحها بصورة هامشية ويعني الفشل في مواجهة أمهات القضايا الخروج النهائي من حلبة الصراع السياسي والفكري ويعني الاندثار والتلاشي من بعد تاريخ طويل مجيد.

هل سيأكل الطير هذا المؤتمر (الوخري) والقول مأخوذ عن (الشيخ إدريس) عندما توفى ابنه الأصغر (عركي) فبكاه وقال عنه (الوخري حق الطير) مثل الذرة تزرع متأخرة فيصبح (قنقرها) حقاً كاملاً لاسراب الطير رغم انف (المحاحاة) ولو أكل الطير (عيش) الشيوعيين فلن تكون لهم مؤونة في حقب الرأسمال المنفلت الجدباء هذا إذا لم يأكل الطير (رؤوسهم) وقضى الأمر الذي فيه تستفتيان!

في 69-1970 قاد الشهيد عبد الخالق محجوب المعركة ضد الاتجاهات الإنقسامية – الإنقلابية وتوّج المؤتمر التداولي في أغسطس 70 تلك المعركة بنصر عظيم على إتجاه مخرب رغم استعانته في صراعه بأداة السلطة التي سخرته واستخدمته لتحويل الحزب عن موقفه ومسخه خادماً لها وهي تظن أنها تصنع " الثورة في السودان"


وتجب ملاحظة أن انقلاب مايو69 والإنقسام وقعا للحزب حين كان مشغولاً بمعركة داخلية طرحها عبد الخالق و جوهرها الارتفاع بقيادة الحزب لمستوى ما طرحه المؤتمر الرابع من أفكار ، وكان من المؤمل أن تؤدي هزيمة الإتجاه الإنقسامي الإنقلابي الى إقتراب الحزب من حل معضلته الأولى التي دارت في الأساس مع ذات العناصر التي صعّدها المؤتمر الرابع على طريقة الموازنات والصفقات والترضيات ، لكن في الحقيقة هزيمة الاتجاه الإنقسامي لم تؤدي تلقائياً الى حل مشاكل العمل القيادي المطروحة في دورات اللجنة المركزية بعد عام من المؤتمر وفي اعتقادي أن الشهيد عبد الخالق كان واعياً بهذه القضية من حيث أن إبعاد العناصر الإنقلابية- المايوية لم يشكل إلا خطوة واحدة وصغيرة في العملية التي كان يتوجب على الحزب القيام بها والتي انيطت بمؤتمر الحزب الخامس يقول عبد الخالق:

(....... حتى نخلق جواً سليماً لمؤتمر حزبنا الخامس الذي سيكون من مهامهة المقدمة تكوين القيادة المعبرة فعلاً عن عضوية حزبنا وقد شملتها حركة التغيير وأفكار التغيير وارتفع مستوى إدراكها النظري ونضالها العملي المعبر عن حاجات العمل الثوري الملحة ...) [في سبيل تحسين العمل القيادي بعد عام من المؤتمر 1968 ]

الرغبة المصاغة أعلاه صارت وبقرار من المؤتمر التداولي 70 ضمن أجندة المؤتمر الخامس، و التداولي هذا هو أهم مؤتمر عقده الحزب بعد المؤتمر الرابع، ويمكن أن نستنتج من هذا السياق أن عبد الخالق لم ير في الإنتصار على جناح معاوية نهاية معركة أزمة القيادة في الحزب ولأن اعضاء الحزب الحاليين حين يذهبون الى المؤتمر الخامس و يطالبون بوضع القضية في الصدارة لن يكون ذلك من باب الوفاء لعبد الخالق محجوب فحسب ولكن من باب تجاربهم العملية واصطدامهم في كل آونة وحين بهذه المسألة المفتاحية، ومن حقهم أن يحملوا همومهم التي شغلت اذهانهم طوال سنوات عديدة الى ساحة حلها الوحيدة المتبقية وبالتالي: فقضية القيادة (إلزامية) للمؤتمر من أي ناحية نظرت اليها و لافكاك ولا تفادي ولا تأجيل ولا ترحيل عبر العقود.

ربما يمكن كذلك أن نستنتج من سياق الطرح أعلاه ان عبد الخالق كان يضع النهج القيادي في المكان المقدم من المسألة حين يشير الى أفكارالتغيير وحركة التغيير والنضال العملي والإدراك النظري.

وعند هذه النقطة ينبغي القول أن الرجوع الى عبد الخالق يستهدف الوضوح والاستناد أفكاره الزكية الذكية تبدو ضرورية أكثر من أي وقت مضى ليس لأن أفكاره صحيحة بشكل مطلق لكن لأن القضايا التي أثارها لا تزال مطروحة على جدول الأعمال الحزبي بلا حل ولا تزال المقاربات التي قدمها صالحة لليوم وقابلة للتطوير وفوق هذا وذاك فعبد الخالق يعلّم طريقة المعالجة المنهاجية لمسائل الصراع الاجتماعي عموماً والحزبي خصوصاً في نسيجهما السوداني المتفرد وقد تذكرت قولاً لأبي العتاهية كأنه كان يعني به الشهيد:

وكانت في حياتك لي عظاتٌ

وأنت اليوم أوعظ منك حيّا

وليسمح لي القراء و لاستكمال هذا السياق أن ارجع الى أفكار عند عبد الخالق بشأن العمل القيادي وبطريقة ملخصة فهو يفرق فيما بين سلطة الإقناع والحوار والسلطة التنظيمية لذا ترتبط عنده القيادة ارتباطاً وثيقاً بالعمل النظري فالقيادة الناجحة تقنع الحزب كي يقوم هو من جانبه بقيادة الجماهير أي اقناعها بما يقدم من رؤية وحلول لحاضر ومستقبل البلاد ففي المستوى الأول لا تحل القضية دون صراع فكري ضد المسلمات القانعة بإعمال الماركسية كمنهج لا شعارات براقة معتمدة على النقول من كتب وكراسات وتجارب الغير من البلدان والحركات الثورية الأخرى بل تتغذى من التحليل الباطني للطبقات في المجتمع السوداني لتصبح قادرة على الرد على تساؤلات الجماهير وتقديم الحلول لقضايا الوطن، هذا الصراع يؤهل الحزب كي يصوغ أهدافه ووسائله ويحدد الزاوية التي يعالج بها تحسين وضعه الذاتي كي يستطيع أن يخوض الصراع ضد الأعداء الطبقيين بالفعالية اللازمة.

ويعرض عبد الخالق لأهمية نقل العمل النظري لمستوى فرع الحزب وجعله جزءً من النشاط الثوري اليومي مما يعطي الثبات الفكري ويحل التناقضات في الحزب ويمتن وحدته ويعطيه الثبات وفي هذا السياق يعالج وضع المثقفين في الحزب وأهمية مواجهة التيارات الفكرية الباحثة عن بديل للماركسية وبديل للحزب كما يعالج وضع الشروط اللازمة لتطوير كادر الحزب المثقف ووضع المتفرغين وتدريبهم ووضع نظام لترقيهم في الفروع الى جانب وضع نظام داخلي لعمل هيئات الحزب المركزية القائدة. حيث لم يعد من الممكن قبول المفهوم البرجوازي للعمل السياسي القيادي البعيد عن مشاكل العمل اليومي الذي يترك القواعد الحزبية تواصل العمل اليومي دون مساعدة حقيقية من القيادة العليا التي لا تسهم في تطوير العمل اليومي ومواجهة مشاكله النظرية والعملية ثم تنزل لتركب الموجة وتتزعم موضوع ونتاج العمل اليومي.

معالجة ضعف العمل القيادي لاتتم في عزلة عن العمل الجماهيري بأن ينكفيء الحزب على ذاته وأن يدخل في عملية بحث في النفس كما يعمل الكاثوليك وبهذا يصبح نهباً للتفكير الذاتي والتقديرات الذاتية التي تؤدي في النهاية الى تمزيق وحدته واضعاف فعاليته بين الجماهير، ما يراد بالضبط هو أن نخلق قادة ثوريين في حلقة ثابتة تواصل قيادة العمل الثوري في مستوى عالٍ – هذه حاجة تاريخية.

هذا الموجز لأفكار عبد الخالق الذي أرجو أن لا يكون مخلاً يعطي لمحة عن ما عناه بتكوين (القيادة المعبرة فعلاً عن عضوية حزبنا وقد شملتها حركة التغيير وأفكار التغيير وارتفع مستوى إدراكها النظري ونضالها العملي المعبر عن حاجات العمل الثوري الملحة )

في نوفمبر 1981 سمحت لي ظروف الإعتقال التحدث لأول مرة مع قيادي بارز من اللجنة المركزية وسكرتارية اللجنة المركزية للحزب الشيوعي ذلكم هو الاستاذ التجاني الطيب بابكر وهناك على سطح عمارة جهاز الأمن طرحت عليه ما كان يشغل ذهني حينها عن الأسباب التي جعلت وزن العناصر المنقسمة في 1970 كبيراً في هيئات الحزب القيادية ولماذا غلبت عليها العناصر التي صعدت للقيادة من مواقع العمل الجماهيري ؟ وقد أرجع الأستاذ التجاني الأمر الى التحول في الأوضاع الطبقية لتلك المجموعة وتطلعاتها والفرص التي أمامها ويقع هذا التفسير ضمن الفهم العام للصراع في الحزب باعتباره جزءً من الصراع في المجتمع وبالتالي كان الأولى التمسك الأشد بأهمية التكوين الطبقي لشاغلي مواقع الهيئات القيادية في الحزب الشيوعي [وهو موضوع كنت قد عرضت له بايجاز على صفحات (الأضواء) قبل وقت قليل من احتضارها المأساوي] وفي الإعتقاد بالإضافة لما قاله التجاني الطيب من أسباب جوهرية عميقة التعرض لأسباب ذاتية كانت متوافرة أيضاً .

مختصر القول في هذا الأمر هو تجمع مشاعر لدى العديد من أفراد هذه المجموعة المنفسمة مبغضة لعبد الخالق محجوب ناظرة اليه كعقبة كأداء أمام تصوراتها الفطيرة للتغيير والتقدم. كما أن آخرين منهم قد تم تضليلهم وبنشاط قاصد أن عبد الخالق شخصياً ليس سوى دكتاتور حزبي تجب ازالته ، هذه حقائق تاريخية وضرورة الإيجاز هنا تحتم حصر القول في الجوانب الذاتية ، ولو سعت تلك المجموعة بكل مشاعرها تلك للصراع ضد عبد الخالق ضمن طرق الصراع الصحيحة في الحزب لما كانت هناك مشكلة قط وكان يمكن لهم الانتصار عليه من ناحية الاحتمال والإمكانية لانهم تيار وعبد الخالق يمثل تياراً آخراً ، وهنا يغدو صراع المناهج مشروعاً وصحياً وصحيحاً ، لكنهم سكتوا عن الصراع ولزموا الصمت وركنوا للتآمر وظنوا خاطئين أن عبد الخالق وتياره أقلية هشة يمكن اقتلاعها بالتآمر ونشر الأجواء غير الصحية والبلبلة . وما لم يتوقعوا حدوثه قد حدث و وجدوا انفسهم في مواجهة حزب قضى ربع قرن من الزمان هو عمره كله آنذاك يصارع التيارات الانتهازية من كل شاكلة ولون ، ولم يفعل عبد الخالق شيئاً سوى أن نزل بوجهة نظره للقواعد فجاء المؤتمر التداولي ليقر الاتجاه الثوري ويهزم الانقسام.

ثم ألم يكن الذين تولوا كبر الانقسام يائسين من حل مشاكل الحزب في داخله وهو قنوط من أن يتمكن الحزب من الارتفاع لمستوى متطلبات التغيير وعدم رغبة من جانبهم في خوض هذه المعركة الجليلة ، لكن لم يكن هذا موقف سايكولوجي محض تكون خارج الصراع في الحزب وفي السياسة السودانية.

في اعتقادي أن هذا الموقف تكون خلال فترة طويلة تحت تأثير اتجاه آخر داخل الحزب لكنه (خفي) اتجاه عظيم السطوة في الجمود يلقي بثقله على مفاصل العمل الحزبي وهذا الإتجاه الجامد كان قد تسنى لعبد الخالق وصفه بدقة عام 1963 والبلاد تتهيأ لاستقبال ثورة أكتوبر وقبل سبع سنوات من انقسام 70. قال عبد الخالق:

(الحياة الداخلية في بعض منظمات الحزب لا تسير على اسس سليمة وخاصة في موضوع المركزية الديمقراطية اذ ان بعض الرفاق يدوسون على هذا المبدأ الذي لن يستقيم الحزب الشيوعي بدون تطبيقه انهم يضعون السلطة التنظيمية محل الصراع الفكري والاقناع انهم لا يحترمون رأي الاقلية, انهم لا يناقشون سياسة الحزب بقدر ما يصدرون الاوامر العسكرية هذا الاتجاه خطير جداً وهو صادر عن عقلية فوضوية, عقلية مغامرة لا علاقة لها بالعقل الماركسي والاضرار الجمه تلحق بالحزب نتيجة لهذا الجو الخانق.)

وفي عام 1968 عاد عبد الخالق لوصف هذا الاتجاه مرة أخرى[ في سبيل تحسين العمل القيادي] فقال:

(فاصبح عدد من كادر الحزب لايستطيع انجاز أعماله بطريق الاقناع بل عن طريق استعمال السلطة التنظيمية، أصبح عدد من هذا الكادر لا يحظى باحترام الرفاق ولا يجد وسيلة للاستمرار هكذا إلا باستعمال أساليب أبعد ما تكون عن العمل الشيوعي) وذات الوثيقة يقول (أن التفكير الحلقي كثيراً ما يقف ضد اشتراك اعضائنا بمبادرة وحماس في عمل الحزب الشيوعي ونتاج التفكير الحلقي هو الوصاية – القلة التي تتوهم أنها يمكن أن تعمل نيابة عن الأكثرية، قلة وصية على كل نشاط ثوري ، هذه مجموعة تتولى عمل الشباب وتلك عمل النقابات وأخرى العمل النسوي الخ ويبقى فرع الحزب متفرجاً وأداة لتنفيذ التعليمات فقط هذا الأسلوب يهدم الديمقراطية التي بدونها لن نتوقع أن تصل أفكار المؤتمر مؤثرة وفعالة بين أعضاء الحزب الشيوعي)

والزعم قائم لدي بأن انقسامي 70 لم يكونوا يفرقون بين تيار عبد الخالق والتيار الجامد القديم المشار اليه ، هذا من جانب ومن الجانب الآخر فإن التيار الجامد لم يكن يرغب في بقاء المجموعة التي قدمت من وسط النشاط الجماهيري ذو الطابع الديمقراطي أدواتاً واساليباً. ويمتاز التيار الوصائي الجامد بأنه يعرف قدر نفسه ويعرف ميزان القوى في الحزب جيداً لذا تلفع باللغة الماركسية واندس من بعد 70 وتماهى مع تيار الأغلبية بقيادة عبد الخالق وخرج بعد يوليو 71 ليرث قيادة الحزب ويلغي اللوائح ويصادر الديمقراطية المركزية ويفرض قبضة مركزية صارمة ويجعل من الوصاية منهجاً شاملاً في الفكر والممارسة الحزبية وطمح أخيراً بعد أن أنجز واجباته التاريخية بحل الحزب وتحويله الى حزب ليبرالي ونبذ الماركسية لصالح كلمات مبهمات مثل "الموروثات المتجذرة"

ومن الواضح أن الحزب الشيوعي الذي خاض الصراع ضد انقلابيي السياسة لم تتح له الفرصة لخوض الصراع ضد انقلابيي التنظيم وأقول أنه دون استكمال معركة الحزب التي خاضها ضد انقسام 70 وانتهت بطردهم بمعركة أخرى ضد اتجاهات الوصاية فإن حزب الشيوعيين السودانيين لن يستقيم له أمر مطلقاً.

وأزيد الأمر توضيحاً لمن يلقي السمع وهو شهيد - فمثلما ينوب الإنقلابي السياسي عن الجماهير ويتسلم السلطة باسمها فإن الإنقلابي التنظيمي ينوب عن أعضاء الحزب (الأكثرية) ويقوم بالقيادة بالنيابة عنها - انهم الوجه الآخر من العملة لإنقسامي 70 غير أنهم نجو بجلودهم من بين ثنايا دماء "حركة" 19 يوليو 71 " الانقلابية".

No comments: