Saturday, May 31, 2008

قانون العمل السوداني وازمة قانون العمل المعاصر

قانون العمل السوداني وازمة قانون العمل المعاصر

محمد علي خوجلي

في اتجاه مناقشة مشروع قانون العمل الاطاري لعام 2007م ومشروع قانون العمل لولاية الخرطوم لعام 2007م أبدأ بعرض مختصر لتاريخ القوانين العمالية في السودان:
ففي مطلع القرن الماضي، وتحت ظل الادارة البريطانية صدر ما يمكن ان نطلق عليه اول تشريع خاص بالعمل (قانون التلمذة الصناعية لعام 1908م) والذي اختص بتنظيم شروط وظروف عمل الاحداث في الورش والحرف الصغيرة. وتبع ذلك صدور (قانون الخدامين لعام 1921م) والذي الغى بعد صدور (قانون خدم المنازل لعام 1955م).
وفي عام 1930م صدر (قانون استخدام الاولاد). ومعلوم ان العمالة في ذلك الوقت كانت قليلة ومركزة في الادارات الحكومية والتي تحكمها نظم ولوائح خاصة بالعمل في الحكومة. وكان امر تنفيذ تلك القوانين من مهمات مديري المديريات ومفتشي المراكز. ومع النمو في العمالة في الادارات الحكومية وارتفاع اعداد الورش والتوسع في الخدمات التجارية كون الحاكم البريطاني في عام 1936م مجلساً استشارياً للحكومة يختص بمسائل العمل والعمالة تحت اشراف السكرتير الاداري..
مع مطلع اربعينيات القرن الماضي وبأثر موجة الغلاء التي صاحبت الحرب العالمية الثانية وارتفاع تكاليف المعيشة برزت حركة العمال المطلبية: بزيادة الأجور وتحسين شروط الخدمة. وذلك رفع بقضايا العمال نحو دائرة اهتمام حكومة المستعمر. وباثر الحرب نفسها زادت نسبة العمال خاصة في السكة الحديد والنقل الميكانيكي والمخازن والمهمات حتى قيام هيئة شئون العمال في عام 1947م، وكذلك فان نهاية الحرب انتجت الجنود المسرحين من الخدمة والتي زادت اعداد العمال.. هيئة شئون العمال تبنت المطالب العمالية واصدار القوانين الخاصة بعلاقات العمل.. وتزامن قيام الحركة النقابية السودانية ونضالها المطلبي والوطني مع اصدار حكومة المستعمر لعدد من القوانين في العام 1949م وهي:
قانون المخدم والشخص المستخدم، قانون النقابات، قانون الورش والمصانع، قانون تعويضات العمال، قانون المنازعات العمالية.
وفي عام 1952م صدر ( قانون محاكم الاجور) ثم قانون مكاتب التخديم في 1955م واستمرت هذه القوانين سارية من بعد الاستقلال عام 1956م ولم يصدر سوى قانون واحد هو (قانون تنظيم منازعات العمل عام 1966م).
قانون العمل الموحد عام 1970م اخذ بالاتجاه الحديث بتضمين كل التشريعات العمالية في قانون واحد. وبمقتضى قانون لعام 1970م ثم الغاء قوانين:
التلمذة الصناعية لعام 1908م، تخديم الاولاد لعام 1930م، قانون خدم المنازل لعام 1955م، قانون نقابات العمل لعام 1949م، قانون تعويضات العمال لعام 1949م، قانون محاكم الاجور لعام 1952م، وقانون تنظيم منازعات العمل لعام 1966م.
وهناك ثلاث ملاحظات هامة، قد تحتاج اليها في الحقبة الراهنة، حول هذا القانون الذي تم سحبه بعد فترة وجيزة من صدوره ولم اجد نسخة له الا في (ملحق التشريع). والقانون اصدره مجلس الوزراء عملاً باحكام الامر الجمهوري رقم (1) وهي:
أولاً: تضمن فصلاً عن النقابات، والغى قانون النقابات.
ثانياً: للمرة الاولى يتضمن تشريع عمالي في السودان لمسألة تنظيم استخدام العمالة الاجنبية.
ثالثاً: نص القانون على عقوبات عند مخالفة احكامه تفصيلاً بما في ذلك العقوبات على اصحاب الاعمال بالغرامة او السجن او العقوبتين معاً مع عدم الاخلال باية عقوبة اشد ينص عليها اي قانون آخر. وحدد العقوبات لاصحاب الاعمال بالنسبة الى مخالفة احكامه بشان:
-
التلمذ المهنية والتاهيل المهني.
-
علاقات العمل وساعات العمل.
-
حماية العمل النقابي
-
تنظيم الاستخدام واستخدام العمالة الاجنبية
-
تنفيذ قرارات التحكيم
-
قرارات الامن الصناعي
وبعد سحب قانون عام 1970م استمر العمل بقانون المخدمين والاشخاص المستخدمين لعام 1949م والذي تم تعديله في عام 1969م وعام 1973م وظل معمولاً به حتى صدور قانون علاقات العمل الفردية لعام 1981م، وكذلك القوانين العمالية الاخرى حتى قانون العمل لعام 1997م.
وفي عام 1970 تم انشاء المؤسسة العامة للثقافة العمالية وصدر قانونها الذي تم العمل به اعتباراً من 17 نوفمبر 1970م وفي عام 1971م وتحديداً في يوم 1/8/1971م صدر قانون النقابات والذي الغى بموجبه قانون نقابات العمل 1949م اما لائحة البنيان النقابي فظهرت لأول مرة في السودان في العام 1972م.
العام 1974م شهد صدور: قانون الحد الادنى للاجور وكذلك القانون رقم 50 لسنة 1974م (قانون التلمذة الصناعية والتدريب المهني) والذي الغى قانون التلمذة الصناعية 1908م ثم القانون رقم 96 لذات السنة (قانون القوى العاملة لسنة 1974م) والذي تم بمقتضاه الغاء قانون مكاتب التخديم لسنة 1955م وتضمن قانون القوى العاملة في فصله الرابع تنظيم استخدام العمالة الاجنبية. كما صدر لاول مرة (قانون الامن الصناعي لعام 1974م).
وفي عام 1976م تم الغاء قانون تنظيم منازعات العمل لعام 1966م بصدور قانون العلاقات الصناعية لعام 1976م وصدر ايضا (قانون لجان الاجور لعام 1976م).
اما قانون العمل لسنة 1997م فقد الغى بمقتضاه قوانين:
-
قانون القوى العاملة لعام 1974م.
-
قانون العلاقات الصناعية لعام 1976م.
-
قانون الامن الصناعي لعام 1974م.
-
قانون علاقات العمل الفردية لعام 1981م.
مشروع قانون العمل الاطاري لعام 2007م ومشروع قانون العمل لولاية الخرطوم لعام 2007م يلغيان:
قانون الحد الادني للاجور لعام 1974م وقانون لجان الاجور لعام 1976م وقانون التعويض عن اصابات العمل 1981م وقانون العمل 1997م وقانون استخدام غير السودانين 2001م.
والقوانين العمالية هي شراكة اجتماعية بمقتضى اتفاقيات منظمة العمل الدولية (الحكومة والنقابات واصحاب الاعمال) وسواء قانون العمل لعام 1997م او مشروع قانون لعام 2007م فانه يأخذ باساليب التشريع الحديثة من حيث توحيد او تجميع القوانين العمالية ومن حيث الشراكة الاجتماعية، وتدخلنا بالمناقشة هذه يستند على الشراكة الاجتماعية والتي احتكرها الاتحاد العام لنقابات عمال السودان..
وقانون العمل هو احدث فروع القانون نشوءاً وفي طليعتها من حيث الاهمية، واستقر الفقه على تقسيم العمل الى نوعين: عمل مستقل (الطبيب، المحامي) وعمل تابع. وقانون العمل لا علاقة له بالعمل المستقل. فتكون القاعدة: ان العمل التابع الذي يحكمه قانون العمل هو العمل المأجور وحده. بما يعني ان قانون العمل هو القانون الذي يحكم العمل الخاص التابع المأجور او القانون الذي يحكم الروابط القانونية الخاصة والمتعلقة بالعمل الذي يقوم به اشخاص مقابل اجر لحساب اشخاص آخرين وتحت توجيههم وسلطتهم او اشرافهم ورقابتهم.
ولا تخفي الاهمية الاجتماعية والاقتصادية لقانون العمل، فمن الناحية الاجتماعية فانه يحكم اعداداً كبيرة من افراد الجماعة. فهو اهم القوانين التي تطبق عليهم وتؤثر على حياتهم الفردية والعائلية ايضا. حيث ان كل القواعد بشأن ساعات العمل والاجور والاجازات والتأمين ضد اصابات العمل..الخ لها انعكاساتها على الفرد واسرته فيكون لقانون العمل علاقة قوية بالامن الاجتماعي باقامته للتوازن المطلوب بين مصالح العمال واصحاب الاعمال.
اما من الناحية الاقتصادية فان قانون العمل يؤثر على اقتصاد الجماعة في اكثر من وجه:
-
حماية الاجور والاجور العادلة توفر مستوى لائق من المعيشة وتزيد مقدرة العمال الشرائية وتزيد بالتالي حركة الاستهلاك ويتأثر بذلك الانتاج.
-
سياسة الحماية العمالية تلزم اصحاب الاعمال بتوفير خدمات اجتماعية لصالح العمال والاعباء المالية لها اثرها في تكلفة الانتاج وارتفاع الاسعار...الخ
وازمة قانون العمل المعاصر هي بين تدخل الدولة واقتصاد السوق والتحولات في سوق العمل العالمي. سياسات التحرير تعني حرية انتقال رؤوس الاموال وكذلك حرية انتقال الاشخاص او ما يطلق عليه كل بلد (العمالة الاجنبية).. حق العمل وحق الاستمرار فيه من الحقوق الاساسية للانسان وسياسات الخصخصة واعادة الهيكلة تمس هذا الحق مباشرة...
والقاعدة الفقهية: ان القوانين زمنية ومرتبطة بالظروف الاقتصادية والاجتماعية والسياسية التي انتجتها، ويكون اي قانون عمل وطني امام السؤال: هل يعبر عن تلك المتغيرات والتغييرات التي مرت وتمر بسوق العمل؟
في القرن الماضي، حقبة القطبية الثنائية ارتبطت قوانين العمل ارتباطاًَ وثيقاً بطبيعة النظام السياسي في الدولة المعنية، والايدولوجية، والتباين الواسع بين النظامين الرأسمالي والاشتراكي.
حدثت تحولات كبرى ايدولوجية وسياسية واقتصادية واجتماعية. جاءت القطبية الآحادية وهيمنة رأس المال المالي الدولي، وتزيد معدلات البطالة وبالذات بين الشباب والنساء.. وارتفعت اعداد العاملين في القطاع غير المنظم- كما اشرت في المقال السابق- ومعلوم ان العاملين في القطاع غير المنظم او شبه المنظم لا تحميهم قوانين العمل ولا قوانين الحماية الاجتماعية.
ليس ذلك فحسب بل ان عمال الورش والمصانع الصغيرة في السودان – مثلاً – لا توجد جهة تلزم اصحاب الورش وتلك المصانع بتطبيق الحد الادنى للاجور واكثر من 90% منهم لا تطبق عليهم قوانين الحماية الاجتماعية بل ان قانون العمل الساري لعام 1997م لا يعرف له طريقاً بين الآف العمال ممن ذكرنا ولا يطبق القانون على هؤلاء في كل نصوصه بما في ذلك الاصابات اثناء ساعات العمل فهل وضع مشروع قانون العمل الاطاري لعام 2007م او مشروع قانون العمل لولاية الخرطوم المعالجات اللازمة من خلال القانون؟
وبسبب الضغوط الاقتصادية فان العمال مجبرين اما أداء ساعات عمل اضافية يومية بما يجعل ساعات العمل الرسمية اثنتي عشرة ساعة (واحياناً تفرض طريقة الاستخدام العمل اثنتي عشرة ساعة ويقبلها العامل مجبراً) واحياناً ترتفع ساعات العمل الرسمية الى ستة عشر ساعة بالعمل في اكثر من منشأة (وردتيتن) او العمل لبعض الوقت في عدد من المنشآت...
ان الاوضاع الراهنة للعمال تعود بهم الى اوضاع العمال ما قبل ثورة اكتوبر الاشتراكية في الاتحاد السوفيتي (السابق). والمعلوم ان منظمة العمل الدولية نشأت بسبب نتائج الثورة الصناعية (والليبرالية المبكرة) التي اطلقت ايادي ملاك وسائل الانتاج لصياغة علاقات العمل مع المنتجين لخدمة مصالح اصحاب رأس المال فكان البؤس وقود الثورات!.
فمنظمة العمل الدولية قامت بعد عامين من الثورة الروسية كحاضنة للعلاقات العادلة في سوق العمل من خلال التشريعات و(الحوار الاجتماعي) و(الشراكة الاجتماعية) والتأكيد على الحريات النقابية والتعويضات العادلة والحماية الاجتماعية للعمال... وهذا يعنى تدخل الدولة اجتماعيا وتشريعياً وانه لا يجب ان تترك الحرية لرأس المال ليفرض شروطه على المنتجين. ولذلك فان فلسفة منظمة العمل الدولية تأسست على قاعدة اعلان فيلادفيا (العمل ليس سلعة بل قيمة اجتماعية) وخلال هذه السنوات ومنذ قيام منظمة العمل الدولية قام سوق العمل بحسب معاييرها اي على تدخل الدولة بهدف المحافظة على الحد الادنى من الحقوق العمالية وتوفير بيئة صالحة للمفاوضات الجماعية بين اصحاب العمال والنقابات.
ان واقع العصر، مطلع القرن الحادي والعشرين وكأنه ذلك الواقع القديم، حقبة ما قبل قيام منظمة العمل الدولية، وما قبل قيام الثورة الروسية. هل لذلك تحدث التحولات الكبرى في دول أمريكا الجنوبية؟!!
فالدعوات ذات الأصوات المرتفعة هي لتخفيف القيود على المستثمرين (أصحاب رأس المال) بالاعفاءات والتسهيلات وخلافها.. ومساعدة اصحاب رأس المال في خفض تكلفة الانتاج بالزيادات الطفيفة على الاجور وكافة التعويضات والالتزامات بما يجعلهم قادرين على المنافسة.. التحولات في تدخل الدولة والقطاع الحكومي والقطاع العام الى اقتصاد السوق الذي يعني التحول من مذهب الحماية الاجتماعية الى مذهب المواطنة الاجتماعية بمعنى ان يتحول عبء الحماية الاجتماعية من الدول واصحاب الاعمال الى المجتمع.. ولذلك تعد هناك حاجة – احيانا- الى قانون وطنيل للعمل او حتى وزارة عمل..!! الحقيقة ان خمسين بلدا من بلدان العالم اليوم لا توجد فيها وزارة للعمل.. ومع ذلك يتزاد ضعف المنظمات النقابية حتى في البلدان الرأسمالية ذات الديمقراطيات الراسخة وهي تواجه العمالة الاجنبية (المهاجرة) كما تطلق عليها منظمة العمل الدولية الفقرة والراغبة في العمل بشروط خدمة اقل وفي ظروف اصعب وبانتاجية اكبر.. لكل ذلك نجد ان كثيراً من حكومات الدول النامية ونقاباتها تقوم باجراء تعديلات عشوائية على قوانين العمل الوطنية لا تستند على استراتيجية واضحة ولا رؤى محددة ازاء سوق العمل فما هو موقع قانون العمل الاطاري لعام 2007م وقانون العمل لولاية الخرطوم لعام 2007م؟
وقانون العمل يتطلب المفاوضات بين اطراف الانتاج لذلك نلاحظ انه يصدر كتعبير عن توافق بين اطراف مختلفة اكثر مما هو معبر عن تكيف حقيقي مع تحولات السوق اي سوق العمل محلياً واقليمياً ودولياً.. من سيدعم اهتمامنا بقانون العمل قبل اجازته بالاجماع في مجلس تشريعي الخرطوم والهيئة التشريعية القومية؟ وكيف سأتي قانون العلم في الاقليم الجنوبي؟
نبدأ بالفصل التعسفي في قانون العمل موضوع المقال القادم.
المراجع:
1/
اصول قانون العمل (د. حسن كبرة)
2/
ازمة قانون العمل بين تدخل الدولة ومذهب اقتصاد السوق (د. يوسف الياس)

No comments: