Saturday, May 31, 2008

السيادة الوطنية (مفهومان)

السيادة الوطنية (مفهومان)

موقع السودان في القرن الامريكي

محمد علي خوجلي

ذريعة حماية الاستقلال
الهيمنة الأمريكية ومشروعها لإعادة استعمار الدول في القرن الأمريكي الجديد باختراق السيادة والتدخل العسكري وإنشاء القواعد العسكرية الجديدة والغزو والاحتلال هي أهداف الاستعمار القديم في القرنين الثامن والتاسع عشر. كل الذي حدث (تجديد الذارئع) وإيجاد أدوات جديدة وحلفاء جدد من القوى الوطنية الداعمة للهيمنة الأمريكية على شعوبها. وفي التحليل الطبقي للمؤتمر الرابع للحزب الشيوعي عام 1967م لظاهرة الحلفاء الجدد في 2008م كانت رؤية المؤتمر كالآتي:
إن هدف الاستعمار الجديد هو ابقاء البلدان المستقلة ضمن نطاق النظام الرأسمالي العالمي الذي تهيمن عليه الاحتكارات الكبيرة وذلك بتسييرها في طريق التنمية الرأسمالية. وعلى هذا الطريق يجري النمو في بعض اقسام الاقتصاد في الزراعة والصناعات الصغيرة ويزداد رأس المال التجاري فتنمو ثروات بعض اقسام السكان (البرجوازية) على حساب الجماهير الشعبية وانخفاض مستوى معيشتها. ويدخل بعض رأس المال الأجنبي للبلاد في شكل شركات مع تلك الاقسام. ان ذلك ينمي البرجوازية المحلية ذات المصلحة في سلوك طريق الرأسمالية وبذلك يخلق نفوذ الاستعمار الجديد قاعدة اجتماعية تربطه به اقوى من تلك التي كان يستند اليها الاستعمار القديم وهكذا يستميل اليه جزءاً من قوات الجبهة الوطنية.
ومن واجب المؤتمر الخامس للحزب الشيوعي السوداني (!) تطوير هذا التحليل وبيان الموقف من مسألة السيادة الوطنية ومشروع اعادة الاستعمار ومراجعة موقف قيادة الحزب (!) في دعمها للتدخل الخارجي في دارفور، بلا فصل بين الاوضاع الدولية والاقليمية والمحلية. فمنذ القرن العشرين، وبعد نيل معظم دول العالم الثالث استقلالها السياسي بعد الحرب العالمية الثانية، عملت الولايات المتحدة الامريكية على اختراق السيادة باسم (حماية الاستقلال السياسي) لتلك الدول وكانت من صور التدخل في الشئون الداخلية تدبير وصناعة انقلابات عسكرية لتمكين حلفاؤها وأصدقاؤها من السلطة أو القيام بانقلابات مضادة وإزالة نظم وحكومات معادية لسياساتها. أما تجديد وسائل أمريكا في الألفية الثالثة أنها لا تعترف بالنظم الانقلابية.. (!)
ومن أشكال إعادة استعمار الدول ذات السيادة في المنطقة ما عرف بمشروع دالاس 1951م والذي من أهدافه: أقامة قواعد عسكرية امريكية في البلدان المستقلة، والمعونات الاقتصادية شرط معاداة الشيوعية، والتدخل العسكري حال تعرض اية دولة لاعتداء من دولة شيوعية (وكان من خطة الامريكان اقامة قواعد عسكرية في السودان في منطقة البحر الأحمر وحلايب).
وفي مقابل حلف بغداد قام مؤتمر باندونج 1955م والذي شارك فيه السودان بوفد برئاسة الزعيم الازهري وارسى المؤتمر مبادئ مقابلة لمشروع الهيمنة الأمريكي وهي:
حل المشاكل التي تهدد السلام في المنطقة وعدم التدخل في الشئون الداخلية، وعدم دخول المنطقة في أحلاف عسكرية مع دول الغرب، وإزالة القواعد العسكرية الأجنبية، ووقف شحن الأسلحة لدول المنطقة، والمساعدات الاقتصادية غير المشروطة.
ومعلوم ان موقف حكومات تلك الدول ساندته حركة واسعة للشعوب في دول المنطقة والأحزاب الشيوعية الوطنية والأحزاب القومية في الطليعة ومن بينها الحزب الشيوعي السوداني (طليعة الطبقة العاملة) في ذلك الوقت. وسجل المؤتمر الرابع 1967م في هذا الخصوص:
إن الايديولوجية الاستعمارية القائمة على تبرير استغلال ونهب الشعوب لا تعترف إلا شكلياً بمبدأ السيادة الوطنية وحقوق الدول الوطنية.
واكتسب مؤتمر باندونج أهمية من نجاحه في تجميع عدد كبير من بلدان آسيا وافريقيا كقوة جديدة تؤثر على مجرى الاحداث في العالم وتدفع حركة التحرر الوطني في البلدان الأخرى.. وتلعب دورها في محاربة الاستعمار..
أما الاتحاد السوفيتي السابق فقد اعتمد في سياسته الخارجية- في تلك الفترة- على (العلاقات الدبلوماسية) ولذلك استندت معالجته للمشروع الامريكي على اجراء الاتصالات بدول الرأسمالية الدولية.
ذريعة التعاون الاقتصادي
في عام 1957م كان مشروع ايزنهاور الذي طرحه على الكونجرس الامريكي بعنوان (الشرق الأوسط) وكيفية ملء الفراغ في المنطقة بعد خروج الدول الاوروبية التي استعمرت في السابق تلك البلدان وتكون مبدأ ايزنهاور من ثلاث نقاط:
1-
التعاون الاقتصادي مع كل دولة مهتمة بالتنمية وتقديم المساعدات مع التأكيد على السيادة الوطنية للدولة.
2-
التدخل العسكري عند تهديد الاستقلال الوطني عند طريق دولة شيوعية.
3-
التعاون مع كل دولة أو مجموعة دول ومساعدتها عسكرياً إذا رغبت.
وبالرغم من محاولات تجميل حلف بغداد إلا ان الواضح ان امريكا منذ عام 1957م اتجهت لتحل محل الوجود البريطاني القديم في المنطقة وكذلك محل الدول الاستعمارية الأخرى واثبت المؤتمر الرابع للحزب الشيوعي السوداني عام 1967م أنه:
(
بعد انهيار الحكم الاستعماري المباشر يلجأ الاستعمار لاشكال واساليب جديدة لاستمرار نفوذه وتغلغله الاقتصادي عن طريق المعونات والقروض واستثمارات الاحتكارات الكبيرة.. وان التغلغل الاقتصادي وتزايد رأس المال الاجنبي في البلدان حديثة الاستقلال يعوق التطور الاقتصادي ولا يساعد على التنمية الصناعية).
أما الاتحاد السوفيتي –وقتها- فقد قدم مشروع (شبيلوف) مقابل مشروع ايزنهاور وجاء بعنوان (برنامج عمل في الشرق الأوسط) لكن السوفيت قدموا مشروعهم للدول الغربية لا لدول وشعوب المنطقة التي يريدون الدفاع عن سيادتها الوطنية.. فيكون مفهوم السوفيت اذن ان (الكبار) هم الذين يحلون مشاكل بلدان الشرق الاوسط، لا شعوبها ومعلوم ان الحزب الشيوعي السوداني كان من المدافعين عن السياسات السوفيتية الخارجية (1956-1967) بحذافيرها وهذا ما أكده المؤتمر الرابع للحزب، صدى المؤتمر العشرين للحزب السوفتي في سياسة (التعايش السلمي) التي حلت محل (العلاقات الدبلوماسية).
القرن الأمريكي وموقع السودان
ظل نهج الطبقات الحاكمة في الولايات المتحدة الأمريكية منذ تأسيسها يعتمد على مبدأ انه لا حاضر ولا مستقبل لامريكا إلا بالهيمنة على العالم أو ينهار بناؤها الداخلي وهذا النهج بذلك المفهوم يعني ان كل سياسات امريكا تصب اولاً في الاحتكارات العسكرية وصناعة النفط والمصارف ثم بعد ذلك لشركات الانتاج والخدمات والاعلام في مقدمتها. ونهج القرن الامريكي الجديد لا ينفصل او يختلف عن نهج الطبقات الحاكمة القديمة، بل استمرار له تحت ظل ظروف جديدة ومتغيرات كثيرة ومع القطبية الواحدة وتكاثر الاعوان الوطنيين المتحالفين مع امريكا كان التدخل العسكري المباشر في بعض الدول واعادة الاستعمار فالتصورات الامريكية في وزارة الدفاع الامريكية والناتو- مثلاً- بقاء قوات التحالف في العراق لثلاثين عاماً على الأقل حتى تمكين (الثقافة الديمقراطية) وحتى تشب أجيال جديدة(!).
قفز المحافظون الجدد (اليمين الديني الأصولي) في الولايات المتحدة الأمريكية في عام 1993م على المسرح السياسي الدولي بصحبة مشروعهم نحو قرن أمريكي جديد والذي أدخل افريقيا في لبه حيث الموارد والثروات واحتياطي النفط والممرات الجديدة لنقله عبر البحار. فالخطة الامريكية المعلنة هي ايجاد ممر في ميناء دوالا في الكاميرون على الساحل الغربي للمحيط الأطلسي قبالة مصافي البترول على الساحل الشرقي الأمريكي وهو خط الأنابيب الناقل لنفط العراق والخليج والسعودية (ينبع- بورتسودان) و(دارفور- تشاد- دوالا).
وتسرع أمريكا في تنفيذ خططها في افريقيا لاسباب أهمها مواجهة سياسات الصين الشعبية الهادفة إلى تأمين مصادرها من الطاقة ووقعت الصين اتفاقيات باكثر من خمسة مليار دولار مع دول افريقية (إنشاء البنى التحتية مقابل النفط) ومعلوم ان امريكا تحصل الآن على 10-15% من احتياجاتها النفطية من افريقيا. والسياسة الخارجية لدولة عظمى كالولايات المتحدة الأمريكية تجاه أية دولة في العالم بالضرورة تكون نابعة من مصالحها واهدافها الكونية من جهة وأهمية الدولة المعنية بتلك السياسة من جهة أخرى ومن انواع التضليل ما يطلقه البعض ان السودان لا يعني شيئاً لامريكا وانها ليست في حاجة إلى نفطة، قصد الاشارة ان التدخلات الامريكية في سياسة السودان الداخلية عطفاً على ضحايا النزاعات المسلحة (غذتها أمريكا بالسلاح) ومعارضة اليمين الديني الاصولي (المسيحي) بقوة للإبادة الجماعية (للمسلمين) في دارفور..!!
أهمية السودان لامريكا في مساحته الشاسعة ومحاذاته لتسع دول عربية وافريقية واطلالته الواسعة على البحر الاحمر قبالة الشواطئ السعودية وجذرها فالسودان له تأثيره على أمن البحر الأحمر ودول حوض النيل والقرن الافريقي والسودان هو نهر النيل، والذهب، والنفط، والحديد، والنحاس، واليورانيوم.. والأراضي الزراعية.. الخ وتم تعريف السودان في مشروع القرن الامريكي الجديد كواحد من النظم الاسلامية المارقة التي تعرقل الاستراتيجية الامريكية في المنطقة بما يستوجب تغيير النظام السياسي.
وتغيير النظام السياسي بالمفهوم الأمريكي لا يعني الاقتلاع من الجذور ولذلك كان تعديل بعض السياسات في بدايات المشروع عام 1998م ومن بعدها نيفاشا وأبوجا وإلى اجتماع روما. ومعلوم ان امريكا اهتمت بالسودان منذ عام 1957م حينما قدمت الشركات الامريكية مشروعات مختلفة لحكومة السودان منها اقامة مطارات في كردفان ودارفور ومصنع للحوم في كوستي...الخ ومعروف تطور الشركة الزراعية المسجلة في لندن برأس مال امريكي حتى مشروع الجزيرة.
ونلاحظ في الحقبة الراهنة ان المروجين لعدم حاجة امريكا لنفط السودان ايضا يبشرون بنهاية حقبة السيادة الوطنية ومنهم من يسخر من استقلال السودان (البارد) والذي حصل عليه قبل الاوان.. وهو دعم ظاهر لخطط عودة الاجنبي حتى تعود الحضارة من جديد (!) وكتب عبد الخالق عام 1956م حول اساليب انتزاع السيادة:
(
إن الأمم التي نالت حريتها السياسية وانتزعت سيادتها من الاستعمار الأجنبي عقب الحرب العالمية الثانية لم تنتصر باسلوب واحد، ولم يكن طريقها واحداً، وأنه كان هناك طريقان الأول بالثورة المسلحة والثاني بالتدرج الدستوري.. لكن طريق استقلال السودان هو النوع الثالث لاساليب انتزاع السيادة الوطنية فقد توصل الشعب السوداني إلى استقلاله بطريق خاص. فلم يعلن الاستقلال بواسطة ثورة مسحلة ظافرة طويلة الأمد وفي نفس الوقت لم يسلك طريق التدرج الدستوري بشكله المعروف.
حقاً أقامت الادارة البريطانية في بلادنا المجلس الاستشاري ومن بعده الجمعية التشريعية لكن الملاحظ أن المؤسستين لقيتا معارضة شعبية كبيرة وبعدت الاغلبية عنهما ونمت الحركة الجماهيرية في الكفاح ضد الجمعية التشريعية. هذا الوضع أدى إلى فشل الجمعية التشريعية في أن تصبح ذات اثر في البلد او ان تكون أداة للتدرج حتى ان البرلمان الذي تكون في عام 1954م لم تكن له صلة بالجمعية التشريعية ولم يتكون بقرار منها.)
من أشكال التدخل:
محاولات الهيمنة الامريكية على بلدان الشرق الاوسط لم تبدأ مع دخول القوات العراقية الكويت، أو أحداث 11 سبتمبر او انهيار الدول الشمولية. بدأت منذ عام 1955م بالتدخل دفاعاً عن السيادة الوطنية وخطر الشيوعية الوهمي وفي الحقبة الراهنة فان التدخل يكون دفاعاً عن حقوق الانسان وخطر الارهاب الذي يستثنى عدوان الدول. وكل المشروعات الامريكية في الالفية الثانية (الشرق الاوسط القديم) منيت بالهزائم. مشروع الشرق الاوسط الجديد لنشر الديمقراطية والحقوق المدنية وتأديب الحكومات الاستبدادية سيلقي ذات المصير.
ودروس التجارب الانسانية اكدت على الدور الكبير للجماهير في كل المعارك التي تم خوضها في بلدان الشرق الأوسط وافريقيا. وان الحركة الشعبية لعبت الدور الحاسم في هزيمة المشاريع الاستعمارية وكان حماية لظهر كل حكومة وطنية رافضة للهيمنة الامبريالية وهذا موضوع مهم فليس مصادفة ان تكون الألفية الثالثة هي عصر الشعوب.. عصر غمار الناس في القرى واطراف المدن (!) ومن متغيرات العصر ايضاً زوال عصر النخب والنجوم الساطعة (!).
ومادامت أهداف الامبريالية لم تتغير، وحتى وسائلها تعيد انتاجها من جديد.
في ظروف مختلفة- لصالحها حتى الآن- فان الشعوب ستعمل على دراسة تجاربها في الحقب الماضية وتطويرها ونلاحظ اليوم ان الشعوب الاوروبية وقواها العمالية والطلابية وغيرها في دول الرأسمالية الراسخة لم يتوقف تضامنها مع الشعوب المقهورة وما تتعرض له من محن ومآسي من قبل الرأسمالية الدولية، وذلك منذ دعم تلك الشعوب لحركة التحرر الوطني ونجد ان شعوب دول قوات التحالف الاستعماري (التحالف الديمقراطي) وحركاتها التقدمية وكل القوى الديمقراطية تضع من بين أهدافها الضغط على حكوماتها لسحب جيوش الاحتلال من العراق، بل ان رؤساء واحزاب سياسية تجرعت كؤوس الهزائم الانتخابية جراء تلك الضغوط وبسبب مواقفها الموالية للسياسات الأمريكية.
والقوى الوطنية في السودان ومن بينها الشيوعيون ستضع على عاتقها مهمة استعادة التقاليد الثورية السودانية في التضامن مع كافة الشعوب والذي عن طريقه يتم رفع الوعي السياسي وبيان اهمية الصمود والمقاومة والدفاع عن مبادئ العدالة والديمقراطية والدفاع عن السيادة الوطنية ووحدة البلاد بين افراد الشعب باقترابهم من التجارب الانسانية والكفاحية لكل الشعوب بما يمنحهم الثقة ويدفعهم للضغط على قيادات الاحزاب السياسية لتعديل سياساتها دفاعاً عن سيادة البلاد وايضاً سيادة الدول الأخرى.
ولا نعتقد انه مما يستعصي على الفهم في العام 2008م استمرار مشروع الهيمنة الامريكية واختراق السيادة بعد اقامة القواعد العسكرية الامريكية الجديدة في دول المنطقة لمواجهة (خطر الارهاب) واستجابة امريكا لطلبات القوى السياسية المعارضة لحكوماتها الوطنية بالتدخل العسكري واسقاط النظم الاستبدادية المعادية لشعوبهم.. انه فقط العجز الذاتي الذي يسعى لتحويل مقاومة ومناهضة اعادة الاستعمار إلى سجالات فكرية حول تجديد النظريات وسودنتها!! وأخص بالذكر الاحزاب الشيوعية الوطنية والأحزاب القومية..

الموقف الفكري والعملي للاسلاميين

من بعد نهاية حقبة الحرب الباردة وقبل أحداث سبتمبر كانت مسألة قبول أو رفض مبدأ التدخل الخارجي في الشئون الداخلية للبلدان ذات السيادة- لفرض احترام حقوق الانسان والحقوق المدنية التي تنتهك – محل خلاف وجدال على نطاق دول العالم وقبل أن تصل المساجلات نهاياتها جاءت (اتفاقية برلين) والتي وقعتها مجموعة دول الغرب في يونيو 1991م عقب حرب الخليج الثانية والتي نصت على:
(
أحقية الدول الأعضاء في التدخل لوضع حد لانتهاكات حقوق الانسان والقوانين الدولية) وهذا النص يتعارض مباشرة مع ميثاق الأمم المتحدة الذي نص في المادة الثانية (7) على عدم التدخل في الشئون الداخلية. وبعد التوقيع على اتفاقية برلين قامت الدول الرأسمالية الكبرى بقيادة أمريكا بتنزيل النص على ارض الواقع الدولي في الصومال وهاريثت وافغانستان...الخ.
المحاسبة الدولية بديل السيادة:
من أشكال التبعية المعاصرة للأمبريالية الترويج بأن المفهوم المعروف للسيادة الوطنية كمفهوم قانوني سياسي يتعلق بالدولة كأحد خصائصها قد ولى زمانه.. وان ارتباط مفهوم السيادة بمفهوم الاستقلال على أساس ان الدولة المستقلة هي الدولة ذات السيادة القادرة على ممارستها داخلياً وخارجياً وبحرية دون تدخل من جهة لم يعد موجوداً ويجب تجديد مفهوم السيادة حتى يتمكن المجتمع الدولي من التدخل لحماية حقوق الانسان وايجاد مفهوم (المحاسبة الدولية) كبديل لمفهوم سيادة الدولة القديم على ان يتم استثناء حاملي الجنسية الامريكية من قانون المحاسبة الدولية.. (!).
وهناك عدة عوامل أفرزت هذه الفكرة منها ان الادارة الامريكية مستفيدة من الزلزال الذي ضرب الدول الشمولية اتجهت للتوسع في مفهوم (التدخل الانساني) وهي مدركة انها تخلط بين مصالحها وبين الشرعية الدولية وتجعل الثانية غطاءاً للاولى. كما ان الرأسمالية المعولمة ساعدت في ادخال تغييرات كبيرة على هيكل وموازين القوى الدولي، فقد زاد نفوذ الشركات متعددة الجنسيات والمنظمات غير الحكومية وتقلص نفوذ الدول والمنظمات الدولية وزادت أوزان القوى الاقتصادية والتكنولوجية مقابل تقلص القوى العسكرية وتحول (مجلس الأمن) إلى حكومة عالمية ديكتاتورية و(غير شرعية) ونفرق ما بين قرارات الجمعية العامة للأمم المتحدة والسودان عضو فيها وقرارات مجلس الأمن أحد أهم أدوات الامبريالية.
الاسلاميون والتدخل الخارجي
إن الشيوعيين السودانيين في مساندتهم لحركات التحرر الوطني في الألفية الثانية لم يفرقوا بين المقاومة الاسلامية أو المسيحية وذلك خلافاً للاسلاميين وقوى أخرى والذين لم يساندوا- مثلاً- نضال الشعب الفيتنامي وعصابات الفايتكونج الشيوعية أو كما كانت تطلق عليها إذاعات بعض الدول ومنها الاذاعة السودانية. اننا بلا مواريه ولا لجلجه نقف إلى جانب كل المقاومات الوطنية ضد الامبريالية في فلسطين والعراق ولبنان وجميع الدول ونساند ايضاً حماس وحزب الله دون الاستجابة لمؤثرات الاعلام الغربي الذي دمغ المقاومة في فتينام بانها عمل عصابات ويدمغ المقاومة الاسلامية اليوم بأنها عمل جمعيات ارهابية.
كما ان موقف حزب (الرأسمالية الجديدة) في السودان الذي تعنت ورفض التدخل الخارجي في دارفور جدير بالتمحيص. فهذا الموقف لا يبدو متسقاً مع قبول ذات الحزب للتدخل عن طريق اتفاق نيفاشا والذي يدفع الحزب الحاكم بان ذلك اقتضته ظروف توازن القوى وضمانات انفاذ الاتفاق ووقف الحرب تلك الضمانات (الدولية) التي طرحتها الحركة الشعبية بدعم كبير من المجتمع الدولي بقيادة امريكا وان وجود القوات الأجنبية محدد المهام ومحدد الفترة وهو أمر مختلف عن التدخل الأممي بقرار من مجلس الأمن تحت الفصل السابع.
وهذا يفرض علينا عرض الموقف الفكري (التاصيل الشرعي والفقهي) للاسلاميين والذي هو بايجاز (الجواز) أحياناً و(الوجوب) احيان اخرى للتدخل الخارجي. فالتدخل الخارجي حسب زعمهم هدفه وقف انتهاكات حقوق الانسان أو (وقف المظالم واقامة العدل). وقد شرح الاسلاميون موقفهم الفكري (الشيخ راشد القنوش والشيخ موفق الربيعي) وآخرون على النحو التالي:
ليس في الشريعة الاسلامية ما يتعرض به مبدئياً على مبدأ التدخل وخرق سيادة الدول من أجل ازالة المظالم المسلطة على الشعوب واقامة العدل. فذلك جوهر رسالة الاسلام في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بمختلف الوسائل المكافئة لازالة الظلم واعلان الجهاد ليس إلا صورة من صور الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
وان المشكل ليس في مبدأ التدخل، فهو واجب مقدس تسقط أمامه كل الاعتبارات الثانوية التي يتحصن بها الطغاة كمبدأ السيادة التي حولوا بها البلاد الواقعة تحت سطوتهم إلى سجن رهيب هم فيه الجلادون والنهابون والقتله والمنافقون. المشكل ليس في مضامين القانون الدولي واعلانات حقوق الانسان فهي على الرغم من اعتراض (المسلمين) الجزئي عليها إلا أنها مقبولة عندهم كإطار لتنظيم العلاقات بين الدول فيما بينها وبين الدول والشعوب وبين الأفراد والمجموعات داخل كل مجتمع. المسألة الرئيسية والاساسية هي (القائمون على أمر الحكومة العالمية) أولاً والبنية التنظيمية لمؤسسات هذه الحكومة العالمية أي آلية اتخاذ القرار فيها.
ولا تمنع الشريعة التدخل الدولي في حالة ممارسة انتهاكات لحقوق الانسان في بلد ما لان الحدود السياسية الموجودة على الخرائط مصطنعة ولا وجود حقيقي لها.. وان الاسلام فضل الحاكم الآخر العادل على حكم الحاكم المسلم الظالم لان الظم اسوأ من الكفر في كثير من الوجوه وفي الشريعة الاسلامية يكون رفع الظلم أولي وعلى ذلك فان مبدأ السيادة الوطنية كما جاء في القانون الدولي يأتي في اطار فكر الدولة السياسي الحديث (غربي الجذور).
الموقف العملي
يرفض الاسلاميون مبدأ التدخل الخارجي في ظل النظام الدولي الراهن والتقسيم الدولي الذي يسيطر على أنظمة العلاقات الدولية وآليات عمل الأمم المتحدة ومجلس الأمن وارتباطهما بمصالح الدول الكبرى وبالذات الولايات المتحدة الأمريكية للاسباب:
1-
المؤسسات الدولية في العالم منحازة ويمكن ان تمارس ما يشبه الحكومة غير النزيهة.
2-
محاولات استصدار قرارات دولية من قبل بعض القوى العالمية ليست برئية بل هدفها حماية مصالح هذه القوى ونفوذها وتكريس نوع من الاستعمار الجديد والتبعية تحت غطاء حماية حقوق الانسان وحماية حقوق الأقليات.
3-
مصداقية التدخلات الدولية معدومة وهي أقرب إلى العنصر ولا يمكن ان تتيح للشعوب المقهورة حالة أفضل من حالات الظلم والتي تتعرض لها من القوى المحلية.
فالاسلاميون- اذن- لا يعارضون من حيث المبدأ (بالتأصيل الشرعي) التدخل الخارجي في أي بلد لوقف انتهاكات حقوق الانسان، وفي نفس الوقت يرفضون التدخل عن طريق الآليات والمؤسسات الدولية القائمة باعتبارها أداة لتحقيق مصالح تلك الدول صاحبة المعايير المزدوجة. فيكون التدخل الخارجي بصورته يصاحبه ضرر أكبر من ضرر عدم التدخل وعليه ليس ممكنا ان يزال المنكر (انتهاكات الحكومات) بمنكر أشد منه (تدخل الدول الكبرى).
السيادة الوطنية (مفهومان)
ان المفهوم المتامرك للسيادة الوطنية والذي يتخذ صوراً مختلفة في الواقع، يبشر به ليبراليو نظام العولمة الذين لا يرون في الدولة ومؤسساتها إلا وظيفة التابع للشركات المتعددة الجنسيات لتؤمن لها المناخات السياسية والقرارات الوطنية التي تضمن استمرار نشاطها دون عوائق وبحكم قدرة رأس المال المتعولم فان المؤسسات المالية الدولية للامبريالية قادرة إلى جانب عصا الشرعية الدولية على تأديب الدول المارقة والمعارضة للسياسات الأمريكية ومصالح الاحتكارات والشركات فوق القومية.
وفلسفة وأطروحات الليبراليين الجدد تجهد لنشر حزمة واسعة من المفاهيم السياسية والاقتصادية التي تمهد فكريا وثقافياً لحق التدويل والتدخل مستندة على جيوش جرارة من مفكري ومثقفي مراكز الدراسات الرأسمالية وشهدنا على الساحة العراقية نموذجاً فريداً (اسلاميين مستسلمين) و(شيوعيين متامركين) وتلك الجيوش لا ينقطع بثها اليومي لقيم الثقافة الجديدة حول الانفتاح والعولمة وثقافة السوق ومجتمعه حتى الوصول إلى النقطة الأخيرة (تلاشي) سيادة الدولة (في فلسطين يعملون على خلق حالتين فلسطينتين في غزة والضفة الغربي والتلويح بالقوات الدولية من قبل حكومة عباس للاستقواء على حماس. وهو نفس ما تحاول الاطراف اللبنانية المسنودة بالدعم الامريكي فرضه على لبنان بهدف محاصرة وخنق المقاومة الوطنية اللبنانية).
وهناك فرق بين تلاشي مفهوم السيادة الوطنية وبين متغيرات قد تمس الممارسة، ودعوة التلاشي هي من ذات اتجاهات قوى الهيمنة العالمية في التهيئة لاقرار متغيرات جذرية في المفاهيم الأساسية للعلاقات الدولية مع بداية الالفية الثالثة ويجب علينا تسمية الاشياء باسمائها الحقيقية فالعولمة الرأسمالية هي اسم آخرللامبريالية ولا نفرق بين بريطانيا العظمى في القرنين الثامن والتاسع عشر وامريكا في الالفية الثالثة (الاستعمار واعادة الاستعمار) والتدخل هو التدخل وفي الالفية الثانية كان التدخل العسكري الامريكي في البوسنة وكوسوفو وكولمبيا وتيمور الشرقية وافغانستان وفيتنام وكوريا...الخ والتدخل السوفيتي في المجر وتشيكوسلوفاكيا...الخ وكلاهما استند في تدخله على دعوات الحكومة الوطنية للتدخل وهي حكومات تابعة..
وعلى ذلك أصبح للسيادة الوطنية مفهومان:
مفهوم مقاومة الاستعمار الجديد والصهيونية واعادة الاستعمار ومفهوم الاستسلام والانصياع للامر الواقع. وقبل عرض التدخل الأممي في السودان بقرار مجلس الأمن 1706 نعرض بايجاز العلاقات السودانية الأمريكية على النحو التالي:
1-
مع الاستقلال السياسي قاومت القوى الوطنية 1956م – 1958م كل المشاريع الاستعمارية من حلف بغداد وحتى مشروع ايزنهاور في حركة جماهيرية واسعة كان فيها للتيارات الاتحادية والشيوعيين والحركة النقابية القدح المعلى.
2-
الحكومة العسكرية الاولى 58-1964م جاءت لتنفيذ المشروع الأمريكي واعتبرت نفسها جزءاً من (العالم الحر حيث بعثت ببرقية لايرنهاور بمناسبة يوم الجيش الأمريكي 1959م: (إن السودان جزء من العالم الحر يهنئ بهذه المناسبة القوات التي تعمل حقيقة لصالح السلم وحرية الشعوب...)
وفي القرن الامريكي الجديد وجدنا في السودان فيئة قليلة حملت اعلام امريكية صغيرة فرحاً يوم تحرير العراق.. وسترفع الاعلام الكبيرة يوم تحرير السودان (!).
3-
ولا نعتقد ان العلاقات السودانية الامريكية بعد ثورة اكتوبر 1964م كانت على مستوى من التعاون.
4-
ولا تخفي مساهمة الرأسمالية الدولية وادواتها في هزيمة حركة 19 يوليو 1971م وفتح الأبواب من بعد ذلك امام الشركات المتعددة الجنسيات وتقديم امريكا معدات عسكرية للسودان وتمويل السعودية جزءاً من مبيعات الاسلحة الامريكية بقيمة خمسمائة مليون دولار.
5-
ونجح النظام المايوي في توفيق علاقاته مع أمريكا لدرجة قيام الحكومة السودانية بتقديم تسهيلات عسكرية لانفاذ سياساتها في المنطقة وطورت امريكا مواقفها من السودان إلى درجة ان اصبح في عداد اثنتي عشر دولة في المنطقة كانت تتلقى (مساعدات أمنية) كما وقع الاختيار على السودان من اجل استخدام اراضيه عند الحاجة لتسهيل مهمة وعمل قوات الانتشار السريع لحماية المصالح الأمريكية.
ومعلوم دور حكومة السودان في تسهيل ترحيل اليهود الفلاشا عبر السودان إلى اوروبا ومنها إلى اسرائيل أو إلى اسرائيل مباشرة (عملية موسى) بواسطة طائرات النقل الامريكية.. ومن بعد 1983م بدأت اتهامات امريكا لنميري بانه (ديكتاتور) !! يضطهد شعبه وكأنه لم يكن كذلك امريكا لم تهتم بما حاق بالشعب تنكيلاً واضطهاداً إلا عند الحاجة ذريعه تغيير النظام.. (!)
6.
وما بين 1986م وحتى انقلاب يونيو 1989م تحسنت العلاقات مع امريكا بعض الشئ وحصلت حكومة الصادق على دعم مادي عسكري أمريكي بقيمة عشرة ملايين دولار، ومساعدات غذائية (قمح) بثلاثين مليون دولار ثم 29 مليون دولار في 1989م تحت شعار (توسيع الدفاع والأمن المتبادل) وذلك من جملة 177 مليون دولار خصصت لخمس دول وجاء ترتيب السودان بينها ثالثاً بعد المغرب والصومال بالرغم من ذلك لم ترق العلاقات إلى مستوى التعاون الوثيق.
7.
أما العلاقات خلال الحقبة الانقاذية فهي معلومة بدأت بوقف المساعدات (اسقاط حكومة منتخبة) وهدف أمريكا خلال الفترة 89-1997م كان اقتلاع النظام من جذوره بالرؤية: ان حكومة السودان غير منتخبة، والسودان من الدول التي ترعى الارهاب...الخ وادرج تقرير وزارة الخارجية الامريكية 1995م السودان ضمن الدول المعادية لأمريكا.. كما ان حكومة السودان تحرض المعارضة الاسلامية المسلحة ضد النظم السياسية الأخرى وبالذات مصر وارتيريا كما أنها تنتهك حقوق الانسان في الجنوب وجبال النوبة (الاقليات المسيحية) كما أطلقت عليها.
أمريكا لم تكتف بتوجيه الاتهامات خاصة بعد اجازة مشروع قرارها في الجمعية العامة للأمم المتحدة الذي أدان انتهاكات حقوق الانسان في السودان 1992م وسوء اوضاع الاغاثة في الجنوب فاتخذت اجراءات كثيرة منها فرض العقوبات الاقتصادية وفرض حظر الأسلحة وسحب شيفرون وتعليق عضوية السودان في صندوق النقد الدولي...الخ بالمقابل قدمت حكومة الانقاذ تنازلات متوالية لمعالجة المأخذ الأمريكي وفهم (الانقاذيون) ان مصالح امريكا لا تكمن في وجود نظام سياسي تابع من الوهلة الأولى وان مصالحها في وجود نظام سياسي (متوافق) مع السياسات الأمريكية في المنطقة العربية وشرق افريقيا ودول حوض النيل والتوافق يعني المحافظة على الأنظمة الصديقة لامريكا واستمرار تدفق النفط العربي من الخليج باتجاه الغرب عبر البحر الأحمر.
وفشل الحكومة في حل أزماتها لم يترك أمامها خياراً بخلاف التفاهم مع الإدارة الامريكية وخدمة مصالحها للمحافظة على السلطة السياسية فتركت امريكا اقتلاع النظام من جذوره واتجهت نحو تفكيكه بصور أخرى وذلك منذ العام 1998م والمشروع الامريكي لا يزال متواصلاً حتى وصل للقرار 1706 الذي يحقق عدة اهداف للراسمالية الدولية في مقدمتها وضع اياديها على دارفور وهي مهمة بالنسبة للاستراتيجية الامريكية وكل تهديد لمشروع القرن الامريكي الجديد هو تهديد مباشر للأمن القومي الامريكي.. وأخيراً وصلت محطة العلاقات إلى (روما) ونعتقد انها المحطة الأخيرة (!!).

قوات أممية لحماية المدنيين

في سبتمبر 2006م وجد شيوعيون سودانيون أنهم يقفون في السياسية العملية بشأن قرار مجلس الأمن رقم 1706 القاضي بنشر قوات أممية في دارفور لحماية المدنيين و دعم إتفاقية دارفور للسلام في خط مواز لموقف الحزب الشيوعي السوداني (الرسمي) الذي كان داعماً للتدخل الدولي العسكري في دارفور بتبرير غريب أن السودان أصبح تحت الوصاية الأجنبية والقوات الدولية على أرض السودان أضعاف عدد القوات العسكرية في حقبة الاستعمار البريطاني و أنه إذا لم تتدخل القوات الدولية فمن يحمي المدنيين في دارفور؟ و من جهة أخرى معلوم قرار السلطة في الخرطوم برفض قرار مجلس الأمن الدولي.
ووجد شيوعيون خارج الحزب أن جملة الأوضاع تطرح على الطاولة مهمات سياسية من الدرجة الأولى ووضع على رأس الأخيرة مرة أخرى قضية بلادنا في تحررها و استقلالها ووحدتها وسيادتها الوطنية و أرتباط ذلك بقضية الحكم والسلطة و استعادة الديمقراطية و كفالة الحريات و الحقوق الاساسية. ذلك دفعهم للدخول في حوار مباشر مع اكثر من فصيل من الفصائل الدارفورية المعارضة و كذلك مع قيادات وطنية قومية و قيادات ديمقراطية في عدد من الاحزاب السياسية المعارضة. و كان الموقف الجماعي الذي تم التوصل اليه و الذي يعبر عن موقف الشيوعيين خارج الحزب هو كالآتي:
قرار مجلس الأمن 1706:
أحدث قرار مجلس الأمن رقم 1706 انقساماً و استقطاباً واضحاً في البلاد ما بين الموقف الحكومي الرافض للقرار و موقف بعض احزاب المعارضة المؤيدة له مماأحدث بلبلة و ضبابية بشأن الموقف الصحيح الذي يفيد البلاد ويجنبها المخاطر. ففي حين يزعم معسكر السلطة ويظن أنه المدافع الوحيد عن السيادة الوطنية و كل من هو خارج معسكره خائن وطابور خامس داعم للتدخل الأجنبي يزعم معسكر بعض الاحزاب المعارضة خطأ أن كل الرافضين للتدخل والوصاية الأجنبية و المعارضين للخطة الأمريكية البريطانية بشأن السودان و باسم الشرعية الدولية هم من الداعمين للمؤتمر الوطني!!
إن تفاقم الازمة الوطنية التي صعد بها الى القمة احتمال التدخل الأجنبي الكائن في دارفور من خلال قوات الاتحاد الافريقي الى قوات دولية تحل محل قوات الاتحاد الافريقي أو تكون رديفاً له وفق الفصل السابع، كل ذلك كان دافعاً لصياغة الموقف من ازمة التدخل الخارجي في بلادنا والرؤية الرافضة للاستبداد الداخلي والتسلط الأجنبي.
سياسات الحكم و ماساة دارفور:
أن التداعيات المأساوية في دارفور لم تتم بمعزل عن السياسات التي اتبعتها الأنظمة الحاكمة في بلادنا منذ الأستقلال وحتى اليوم، وقد فشلت تلك السياسات في حل اي من قضايا البلاد أو في الاستجابة لمطالب الجماهير السودانية المرفوعة عبر الحقب، و تزامن ذلك مع انعكاس تناقضات دول الجوار وصراعاتها السياسية والمسلحة اضافة للعوامل الذاتية الداخلية لذلك لم يكن مستغرباً أن تتفجر ازمات البلاد بأشكال مختلفة في مختلف أنحاء البلاد فمن حرب أهلية إندلعت في جنوب البلاد وجنوب النيل الأزرق وجبال النوبة الىحرب في غربها في حين تتوالي التوترات في الشمال و في كردفان وفي الوسط وفي عاصمة البلاد ، وقد لخص شعار (التهميش) نهج السلطة المركزية تجاه جماهير الشعب الذي يتسم بالهيمنة والاحتكار والأنانية الضيقة والاستعلاء الثقافي والتعصب الديني والخيلاء و الاستكبار السياسي. منذ بيانها الأول عملت حكومة 30 يونيو على التنكيل بالحركة الجماهيرية أحزاياً و نقابات و منظمات ديمقراطية و قيادات وطنية و صحافية في سلسلة من قرارت و حملات الاعتقال والتشريد من الخدمة و مصادرة الممتلكات ..الخ و ذلك بهدف شل فعاليات الجماهير و مبادرتها بما يمكن السلطة الحاكمة من تمرير برامجها التي تسترت بالمتاجرة بالمقدسات لخدمة مصالح الفئات الرأسمالية الطفيلية التي تمثلها و ألحقت ذلك باجراءات واسعة لتزوير ارادة الشعب تحت قيام مؤتمرات صورية حشد لها النظام محاسيبه و اقصي عنها الشعب باحزابه وقواه الوطنية والديمقراطية سواء على صعيد الجنوب أو على صعيد الجبهة الاقتصادية أو في ما يتعلق بمستقبل الحركة النقابية وغيرها من المؤتمرات التي كانت واجهات للنظام فقط.
و هكذا تزامنت مع حملات التشريد من الخدمة علىالصعيدين المدني والعسكري احلال أهل النظام و تحطيم تقاليد الانضباط العسكري و مهنية الخدمة المدنية ، مما حول مؤسسات الدولة بشكل عام الى مؤسسات لحزب الجبهة الاسلامية تأتمر بأمرها بعيداً عن قوانينها و انضباطها، فحل الولاء للنظام مكان الكفاءة والاقتدار مما فتح الباب واسعاً لاستشراء الفساد والمحسوبية والاعتداء على المال العام و اهدار مقدرات البلاد واهمال التنمية و انعدام العدالة و ضعف الكفاءة وغياب المساءلة والمحاسبة ...الخ فاضحي جهاز الدولة جهازاً ديكتاتورياً يعبر عن مصالح الفئات الحاكمة والرأسمالية الطفيلية و ليس مصالح الشعب.
السياسة الاقتصادية:
مثلت السياسة الاقتصادية ركناً مهماً في السياسات التي افضت الى الازمة الشاملة بتدمير الانتاج الوطني، الزراعي والصناعي. وفتح الاسواق بل وإغراقها بالمنتجات الاجنبية و إتباع توصيات مؤسسات النقد الدولية شبراً بشبر و ذراعاً بذراع والخضوع لها مما أدي الى نتائج مدمرة خاصة على الريف حيث تعيش الغالبية من المواطنين على الانتاج والاقتصاد المعيشي التقليدي الرعوي والزراعي و تحويله الى اقتصاد يلبي حاجات الصادر على حساب الاقتصاد المعيشي، و مضت سياسات الافقار الى رفع الدولة يدها عن الخدمات الاساسية وتصاعدت وتائر الهجرة الداخلية والخارجية و العطالة وتفكك شمل الجماعات و الاسر و توالت المجاعات و هجرت المزارع القرى و ضاقت الخيارات و تفاقمت المعاناة ، و بخاصة في سنوات الجفاف و تحت تهديد التصحر فكل السياسات لم تكن قادرة على الاستجابة لتحديات البيئة الطبيعية في الحد الأدني ناهيك عن اخضاعها و تغيير نمط المعيشة.
مواجهة صحوة جماهير الريف:
سلطة (الإنقاذ) بقيادة المؤتمر الوطني مثلت ذروة السياسات التخريبية التي سارت عليها البلاد منذ الاستقلال وأوصلتها الى حدودها القصوى خاصة وهي تواجه صحوة نهوض جماهير الريف و اشواقها للحياة الكريمة ، و في دارفور على وجه الخصوص إتخذت تلك السياسات منحي خاصاً عندما تخلت السلطة عن حيادها تجاه الصراعات التقليدية في ذلك الاقليم و إنحازت حين سيست الادارة الأهلية وسعت بالبغضاء وقسم الصفوف بين القبائل وخشوم البيوت واعتمدت التحيز أساساً في توزيع المناصب المحلية والولائية والمركزية وتجاهلت بتعمد كل توصيات ومقررات مؤتمرات الصلح القبلية فيما يتعلق بالمسارات والتعويضات والديات ومضت في تدمير النذر اليسير في مؤسسات التنمية بالاقليم مثل مصنع نسيج نيالا ومشروع شمال غرب السافنا ومشروع ساق النعام الزراعي ثم توجت كل ذلك بالاعتداء على الحقوق التاريخية الناشئة عبر القرون وفرض امارات وامراء في دور القبائل وحواكيرها التقليدية المعروفة الحدود ثم اكملت الناقصة بتسليح من انحازت لهم ومضت في مخططها العدواني حرقاً وقتلاً مما مزق وحدة النسيج الاجتماعي لمجتمع دارفور مهدداً بذلك الوحدة الوطنية بجدية.
قضية دارفور لم تبدأ عند انفجار التمرد المسلح باعلانه المدوي عند الهجوم على الفاشر لكنها تمتد في الماضي البعيد والقريب بجذورها البيئية المناخية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية والتي تلخصت في تخلي الدولة عن مسئوليتها في مواجهة للمشكلة في جذورها، حماية المواطنين ورفضها السماح لهم الدفاع عن أنفسهم عندها توصل بعض أبناء دارفور لحقيقة ان ما يواجه أهلهم من خطر ليس سوى السلطة نفسها التي استجدوها بالحاح حتى تحميهم فقرروا خوض الحرب على هذا الاساس ورغم انه من غير الاخلاقي الجلوس بعيداً والقول ما كان يجب اللجوء للسلاح إلا ان مسار الاحداث نفسه قد بين ان السلاح لوحده لم يكن بمقدوره ان يفتح طريقاً لحل القضية بمعزل عن بقية البلاد وقواها ومواقفها باعتبارها جزءاً من الأزمة الوطنية الشاملة لكل القطر.
وفي كل الأحوال فان العودة للسياسة ضرورة يفرضها الواقع كما يميلها الوعي، وكما هو معلوم فان الحرب امتداد السياسة ولابد من السياسة حتى تضع الحرب اوزارها واستند النظام في حربه في دارفور على الرهان القبلي الاثني وهو يحاول بث الفرقة بين مواطني دارفور وتكريس انقسامهم وتخليده بتجميد الوعي على المستوى المتدني بمحاولات خبيثة لتغبيش الوعي بحقيقة الصراع وجوهره حتى لا تبين الابعاد الصحيحة لذلك الصراع المهول وحبس اجزاء مؤثرة من الجماهير في حيز الاوهام التي يبثها دعاته واعلاميوه.
لقد أتمت السلطة ما بدأته وأوصلت سياساتها إلى منتهاها حين عمدتها بدماء الابرياء ضحايا سياسة الارض المحروقة مما آثار الضمير والرأي العام الوطني العالمي مما فتح الباب أمام البعثات الدولية والقوات الافريقية وشبح الوصاية الدولية فالسلطة في الخرطوم تتحمل المسئولية الكاملة في فتح ثغرات القوى الأجنبية للبلاد.
اتفاقية امراء الحرب:
كان من الواضح أن المسار الذي اتخذته قضية دارفور لن يفضي إلى حل عاجل، ومنذ اتفاقية وقف اطلاق النار وجولات مفاوضات أبوجا المختلفة سعت السلطة إلى كسب الوقت ولم يك هناك ما يشير إلى تخليها عن كامل نهجها أو تخليها عن حلفائها المسلحين المسمون بالجنجويد ولم تتراجع السلطة إلا بشكل مؤقت أمام الحركات المسلحة المعارضة وضغط الرأي العام العالمي ومن ضمن الأسباب التي جعلت طريق مفاوضات أبوجا غير مثمر كونه اتفاق ثنائي فرضته الضغوط الدولية وانذاراتها ولانه تجاهله جوهر المشكلة وغيب شعب السودان، وفي مقدمته أبناء دارفور عن المشاركة وحصرها مع بعض امراء الحرب اقر فقط بحق بعض الاطراف دون سواها فترك مجموعات كبيرة من قوى دارفور. وبخاصة تلك التي لم تنخرط في الحرب خارج اطار المفاوضات، وما كان لتلك المفاوضات ان تتوصل إلى نتائج مقبولة وهي تقوم على استبعاد قوى اساسية في دارفور ورغم هذه السمة من التمثيل الجزئي فقد شكل تعنت السلطة امام المطالب العامة لدارفور عقبة كأداء جاء من بعدها ضغط الولايات المتحدة الأمريكية ليقصم ظهر أي أمل في حل مقبول لتخرج اتفاقية أبوجا، كما هو معروف، رغماً عن بعض عناصرها الايجابية مولوداً مشوهاً مرفوضاً من غالبية أهل دارفور وتنظيماتهم.
رفض العدوان باسم الشرعية الدولية:
واعتماداً على كل الحيثيات التي أوردتها كان رفض شيوعيين سودانيين خارج الحزب للقرار 1706 ولابد من التأكيد على الآتي:
1-
ان الموقف لا يقوم على أساس مناقشة قانونية، فغض النظر عن صدوره بالاستناد إلى ميثاق الأمم المتحدة وفصوله المختلفة إلا أن الموقف منه يقوم على أساس سياسي وطني يضع في اعتباره في المقام الأول سيادة بلادنا واستقلالها ووحدتها وعزة شعبها وكرامته. ونعرف من خبرتنا وخبرة غيرنا من الشعوب أن الأمم المتحدة نشأت متأثرة بميزان القوى فيما بعد الحرب الكونية وقد مال هذا الميزان في ظل عالم القبطية الواحدة وصارت الأمم المتحدة تميل اكثر فاكثر لان تصبح غطاءاً شفافاً لمصالح ومطامع دولية رأت ان تتخذ من (الشرعية الدولية) رأيه لنزوعها العدواني تجاه الشعوب.
2-
نفرق بالتأكيد ما بين الدول العظمى ومخططاتها ومصالحها غير المشروعة على النطاق العالمي وما بين شعوب العالم والراي العام العالمي والضمير الانساني العالمي، فقد وفقت شعوب العالم من مختلف الدول مع الحقوق والحريات ودافعت عن المضطهدين والمقهورين وتصدى الكثير من الشرفاء لقول الحقيقة أمام موجات من التزييف والارهاب، وفي حالة دارفور لن نحتاج إلى دليل على ذلك، لكننا نرفض ان تتدثر المصالح الضيقة لحفنة من الدول بالنبل والانسانية زوراً وادعاءاً بالاستجابة لضغوط شعوبها للمساس بسيادة بلادنا واستقلالها، ومن الواجب ان نسعى بلا كلل للتوضيح لكل الشرفاء في العالم ان حدبهم على الحقيقة ومسعاهم الانساني لا يجب ان يتحول ضد مصلحة شعبنا وحقوقه الأساسية.
3-
قرار مجلس الأمن يمس سيادة بلادنا، وبغض النظر عن طبيعة السلطة في بلادنا وموقفنا منها فاننا سندافع عن وطننا مهما كان الثمن وفي الحقيقة ان كل الذين استنجدوا بالأجنبي في صراعهم الداخلي كي ينتصروا به على حكوماتهم انتهوا إلى الذلة والمسكنة تحت الحذاء العسكري الأجنبي البغيض فلا أحد غيرنا نحن السودانيين له الحق في هيكلة أو إعادة هيكلة الشرطة والقضاء أو أي جهاز آخر، لا أحد ونحن نفضل ان تظل هذه الأجهزة خربة عاجزة على أن يتولى أمرها الأجنبي مهما كان بلده أو دينه.
4-
يتزرع القرار بمسألة حماية المدنيين والتي هي غير ممكنة دون إزالة مكامن الخطر الدائم الذي يهددهم. والقوات لا تملك غير القوة العسكرية التي لن تستطيع حل قضية سياسية واقتصادية واجتماعية.. ان حل القضايا والمآسي الانسانية لا يتطلب وقفها فقط وانما سد المنابع التي فجرتها في البداية فمعالجة الاعراض وحدها لن يستأصل الداء.
5-
يعطي قرار مجلس الأمن للقوات الدولية حق التواجد في أي منطقة في السودان بما يزيد من احتمال توسع وجود القوات الدولية.. فالتدخل مشروع متكامل مصمم لكل البلاد وقبول القرار هو قبول الوصاية على كل السودان وكل المقترحات المسمومة المبثوثة عبر آلة الدعاية الامبريالية والصهيونية تحاول نشر تفاصيل بعيدة عن بيان (طبيعة التفويض) و(قيادة التفويض) وفي أفغانستان بدأ التدخل بقوات أممية تحولت إلى دولية حتى تولت قوات حلف الناتو الأمر في النهاية.
وليس من أحد منا يزايد في وطنيته على الآخر ولن نقبل لأي من ابناء السودان أن يكون كرازياً آخر أو جلبي آخر لا نريد لأي منهم أن يراهن على صورة السياسي بالاتكاء على الأجنبي أو حسن الظن به لان التجربة التاريخية تقول بعكس ذلك فلا أحد يبني بيتاً للآخر وأجندة الأجنبي مهما كان هي الاكثر خطورة من كل خلاف يمكن ان ينشا بين أبناء الوطن الواحد.
ونتوقع من المؤتمر الخامس للحزب الشيوعي التصدي للمعالجة الفكرية لقضية السيادة الوطنية في الألفية الثالثة وأن يخرج بمشروع قرار يدين فيه موقف قيادة جهاز الحزب الداعم لقرار مجلس الأمن 1706 ودعوته الصريحة للتدخل الأممي في السودان ونقد هذا المسلك وتصحيحه. كما انه على المؤتمر نقد مواقف احزاب المعارضة التي رأت في المحتل خلاصاً من قصورها وعجزها عن التصدي للنظام وهزيمته ومن المؤسف ان بعضها كانت لها قدم راسخة في معارك الاستقلال الوطني ضد المستعمر الأجنبي.

No comments: