Saturday, May 31, 2008

بمناسبة الذكرى الـ 36

بمناسبة الذكرى الـ 36

دروس انقلاب 19 يوليو 1971م

محمد علي خوجلي

كتب الكثير عن انقلاب 19 يوليو 1971م، وصدر تقويم سكرتارية اللجنة المركزية في عام 1996م، ودارت حوله مناقشات واسعة نشرت في مجلة قضايا سودانية التي كانت تصدر في التسعينيات من القرن الماضي في الخارج وفي مجلة الشيوعي وفي الصحف السيارة، وتم تلخيص هذه المناقشات في الكتاب الثاني (ب) من التلخيص الختامي للمناقشة العامة التي فتحها الحزب الشيوعي السوداني حول متغيرات العصر في اغسطس عام 1991م، كما صدرت كتابات ومؤلفات ومذكرات نذكر منها على سبيل المثال لا الحصر: مؤلف محمد محجوب عثمان: بعنوان الجيش والسياسة في السودان عام 1998م الصادر عن مركز الدراسات السودانية، كما صدرت افادات من شهود عيان من عسكريين ومدنيين حول تلك الاحداث نشرت في الصحف السيارة، كما صدر كتاب فؤاد مطر الحزب الشيوعي نحروه ام انتحر والذي احتوى على وثائق الصراع الداخلي في الحزب حتى قيام انقلاب 19 يوليو، كما صدر كتاب حسن الجزولي: عنف البادية: اللحظات الأخيرة في حياة عبد الخالق محجوب 2006م، كما صدر توثيق جيد لاحداث قصر الضيافة قام بها د. عبد الماجد بوب وتم نشره في قضايا سودانية العدد 26، يوليو 2001م، وغير ذلك من الكتابات والابحاث، وتبقى مهمة تقصي الحقائق حول الجانب العسكري في وثيقة تقييم 19 يوليو الصادرة من سكرتارية اللجنة المركزية واحداث قصر الضيافة، كما كان مقرراً اثناء التحضير للمؤتمر الخامس للحزب الشيوعي السوداني بعد انتفاضة مارس ابريل عام 1985م والذي قطع التحضير له انقلاب يونيو 1989م، حيث تم انجاز الشق السياسي والذي نشر في عام 1996م، والجدير بالذكر ان الشق السياسي في تقويم 19 يوليو والذي نشر قد اعدته لجنة كونها مركز الحزب وليس كما اشار محمد علي خوجلي في صحيفة الرأي العام بتاريخ: 14/6/2007م، بان كتاب محمد ابراهيم نقد، وتمت مناقشته في السكرتارية المركزية قبل ان ينشر، كان ذلك اثناء خطوات التحضير للمؤتمر الخامس في الفترة: 1985-1989م، اضافة لملابسات اعتقال عبد الخالق محجوب، تقصي حقائق بذهن مفتوح يصل للحقائق من الوقائع وليس من التجريم المسبق والذي لا يفيد التاريخ بشيء، بقدر ما المطلوب هو استخلاص الدروس والعبر من تلك الاحداث والتي تفيد الاجيال الحالية والقادمة في مسيرتها نحو التحول الديمقراطي والتنمية ووحدة وازدهار البلاد.
كل هذا الرصيد من الدراسات والافادات تساعدنا في استخلاص دروس انقلاب 19 يوليو 1971م، فما هي اهم تلك الدروس؟
أولاً: وسيلة التغيير:
أشار دستور الحزب الشيوعي السوداني المجاز في المؤتمر الرابع اكتوبر 1967م، وتحت عنوان حزب جديد في اهدافه ووسائله الى ما يلي : (لتحقيق اهدافه يسلك الحزب الشيوعي طريق النضال الديمقراطي القائم على توعية الجماهير العاملة وكل المناضلين في سبيل الاشتراكية وتنظيمهم وتوحيدهم على أساس الأفكار والمبادئ لا على أساس التبعية العصبية العمياء القائمة على القبلية او الطائفية او تقديس الاشخاص). كما أشار برنامج الحزب الى ان (النظام الوطني الديمقراطي ينبعث من بين حركة الجماهير النشطة القادرة على التوجيه والرقابة). أي ان النظام الوطني والديمقراطي لا يأتي بانقلاب عسكري.
كما لخصت وثيقة الماركسية وقضايا الثورة السودانية (التقرير السياسي الصادر من المؤتمر الرابع) تجارب النضال ضد ديكتاتورية الفريق ابراهيم عبود، وجاء فيها ان الحزب قد توصل الى الاضراب السياسي في عام 1961م بعد فشل الانقلابات العسكرية في عام 1959م التي انهكت الحركة الجماهيرية والمعارضة العسكرية، كما رفضت الوثيقة ايضا التكتيكات المغامرة اليائسة التي لا ترى بديلاً غير الانكفاء والقيام بعمل مسلح، وأشارت الى انه لا بديل للنشاط الجماهيري لانجاز التحولات الوطنية الديمقراطية.
كما تصدى عبد الخالق محجوب بالرد على مقال احمد سليمان الذي كتبه في صحيفة الايام في عام 1968م الذي كان دعوة صريحة للانقلاب العسكري.
وجاءت دورة اللجنة المركزية في مارس 1969م التي اكدت الرفض للتكتيك الانقلابي واشارت الى ان: (الحزب الشيوعي يرفض العمل الانقلابي بديلاً للنضال الجماهيري الصبور والدؤوب واليومي وبين النضال الجماهيري يمكن ان تحسم قضية قيادة الثورة).
ثانياً: تأييد اللجنة المركزية لانقلاب 25 مايو و19 يوليو خرق لدستور الحزب:
وبعد انقلاب 25 مايو 1969م، كان اجتماع اللجنة المركزية مساء 25 مايو 1969م، والذي اصدر خطاباً داخلياً قرر دعم وحماية الانقلاب، وان يحتفظ الحزب بقدراته الايجابية في نقد وكشف البورجوازية الصغيرة التي ليس في استطاعتها السير بحركة الثورة الديمقراطية بطريقة متصلة. وترتب على تأييد الانقلاب موافقة اللجنة المركزية باشتراك الوزراء الشيوعيين (اربعة) في مجلس وزراء الانقلاب، وباشتراك هاشم العطا وبابكر النور (شيوعيان) في مجلس قيادة الثورة بعد أن رفض الحزب في البداية فكرة الانقلاب.
وكان الخطأ منذ البداية موافقة اللجنة المركزية على تأييد الانقلاب والاشتراك في مجلس الوزراء وفي مجلس قيادة الثورة، علماً بأن الضباط الشيوعيين رفضوا فكرة الانقلاب قبل 25 مايو 1969م، عندما طرحت عليهم، كما رفض المكتب السياسي ايضا فكرة الانقلاب في اجتماعه في 8/5/1969م، وكان الواجب هو مواصلة هذا الموقف المبدئي بعد انقلاب 25 مايو 1969م، الذي فرض ديكتاتورية عسكرية صادرت الحقوق والحريات الديمقراطية باسم التقدم والاشتراكية، باصدار اوامر جمهورية جعلت عقوبة الاضراب الاعدام!!. وكان الموقف السليم هو التمسك بالحقوق والحريات الديمقراطية وتكوين اوسع جبهة من اجل استعادتها، باعتبار ان الحقوق والحريات الديمقراطية هي التي تفضي للنظام الوطني الديمقراطي وليس الانقلابات العسكرية، وقد كان ذلك هو موقف عبد الخالق محجوب.
وبالتخلي عن هذا الموقف المبدئي وقعت اللجنة المركزية في شرك الانقلاب، مما ادى الى فتح الباب امام المغامرة والانقلاب وضعفت قبضة قيادة الحزب الفكرية والسياسية على تنظيم الضباط الاحرار (على الشيوعيين منهم على الاقل)، اضافة لعدم موقف المكتب السياسي الحاسم في رفض فكرة انقلاب 19 يوليو عندما طرحه العسكريون في اجتماعه بتاريخ 13/7/1971م، والموافقة المبدئية على فكرة التصحيح، مما اعطى ضوءاًَ اخضر لمواصلة العسكريين في تنفيذ الانقلاب كما اشارت وثيقة تقويم 19 يوليو.
وكانت النتيجة: في 19 يوليو 1971م نفذ الضباط الشيوعيون والديمقراطيون انقلاباً عسكرياً، تم اعلان سلطة الجبهة الوطنية الديمقراطية بانقلاب عسكري!، الانقلاب تم بدون علم وموافقة اللجنة المركزية، وبعد وقوع الانقلاب تم وضع اللجنة المركزية امام الأمر الواقع، وقررت اللجنة المركزية في اجتماعها مساء 19 يوليو تأييد الانقلاب، وبعد ذلك حدث ما حدث من التفاصيل المعروفة.
لقد اكدت التجارب ان كل الاحزاب الثورية التي وقعت في شرك الانقلابات والديكتاتورية العسكرية باسم الاشتراكية والتقدم دفعت الثمن غالياً، ولقد كانت ضحايا تلك الانقلابات تلك الاحزاب نفسها وكوادرها المخلصة والامينة، في كلا الحالتين: نجحت ام فشلت تلك الانقلابات.
وخلاصة القول، ان خرق دستور الحزب الشيوعي ومقررات المؤتمر الرابع، بتأييد اللجنة المركزية لانقلابي 25مايو و19 يوليو 1971م، كان له اثار مدمرة دفع الحزب الشيوعي السوداني ثمنها غالياً.
ثالثاً: دروس انقلاب 19 يوليو:
وبعد انقلاب 22 يوليو 1971م، بدأ الحزب الشيوعي السوداني يضع قدميه على الطريق السليم المجرب للتغيير كما اشارت وثيقة الماركسية وقضايا الثورة السودانية، وطرحت دورة اللجنة المركزية في يناير 1974م الاضراب السياسي العام والانتفاضة الشعبية كاداة للاطاحة بديكتاتورية نميري، وثابر الحزب على هذا الموقف حتى اندلعت انتفاضة مارس ابريل 1985م، كما لخصت اللجنة المركزية في دورتها في يوليو 1977م تجارب الانقلابات الى الاتي:
*
الحزب الواحد المفروض بالقانون والانفراد بالسلطة يقودان الى مصادرة الحقوق الديمقراطية للجماهير، غير انه لا يمكن الوصول للاشتراكية الا عبر الديمقراطية.
*
التكتيكات الانقلابية غير مقبولة، ولا بديل امام الحزب الشيوعي غير النشاط الجماهيري.
وكذلك من وثائق اللجنة المركزية الهامة التي عالجت قضية الديمقراطية بعمق دورة عام اغسطس 1977م، بعنوان الديمقراطية مفتاح الحل للازمة السياسية: جبهة للديمقراطية وانقاذ الوطن، وطرحت ضرورة الوصول للنظام الوطني الديمقراطي بطريق ديمقراطي جماهيري، وعبر التعددية السياسية، وواصلت دورة ديسمبر 1978م معالجة القضايا الفكرية والعملية التي اثيرت حول الديمقراطية كما ورد في دورة اغسطس 1977م، ودعمت الاتجاه لترسيخ الديمقراطية، كما عالجت القضايا الفكرية والسياسية التي طرحت بعد المصالحة الوطنية عام 1977م، مثل: الازمة الاقتصادية، استغلال الاسلام كواجهة للتحالف..الخ. وتبقى مهمة المؤتمر الخامس للحزب في بلورة هذه القضية بعد دروس انهيار التجارب الاشتراكية في الاتحاد السوفيتي وبلدان شرق اوروبا، والتي كان من أسباب انهيارها مصادرة الديمقراطية والحقوق والحريات الاساسية رغم الانجازات التي حققتها في مجالات التعليم والصحة وحماية الشيخوخة والطفولة ومحو الامية..الخ، وبالتالي لابد من استكمال الحقوق والحريات السياسية بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والسياسية. مهم ان يبلور المؤتمر الخامس هذه القضية على المستوى النظري وفي ضوء حصيلة المناقشة العامة التي فتحها الحزب الشيوعي حول متغيرات العصر، بان النظام الوطني الديمقراطي يعتمد التعددية السياسية البرلمانية.
رابعاً: من دروس تجربة 19 يوليو، ضرورة توسيع الديمقراطية داخل الحزب، ان غياب مؤتمر الحزب لمدة 40 عاماً، كان له الأثر السلبي على مسيرة الحزب ومراجعة خطه السياسي وخاصة في الفترة 1967-1969م، حيث بلغ الصراع السياسي قمته داخل اللجنة المركزية حول تكتيكات الحزب، وارتفعت بعض الاصوات داخلها تنادي بالخلاص عن طريق الانقلاب العسكري، وقد تناولت دورة اللجنة المركزية في مارس 1969م هذا الموضوع كما اشرنا سابقاً. وكان لابد من عقد مؤتمر للحزب باعتباره اعلى سلطة في الحزب وهو الذي يحدد سياسة الحزب واهدافه العامة ويجيز ويعدل برنامجه ودستوره وينتخب القيادة العامة. وكان ذلك سوف يتيح مناقشة اوسع تشرك مجموع عقل الحزب الجماعي، والذي من شأنه ان يضع مجموع الحزب في المسار السليم، صحيح انه في تلك الفترة عقد مؤتمر استشاري لكادر الحزب، ولكن المؤتمر الاستشاري حسب لائحة الحزب تصبح قراراته ملزمة بعد اقرارها بواسطة اللجنة المركزية، علما بان اللجنة المركزية نفسها كانت منقسمة على نفسها، وبعد المؤتمر التداولي وقع الانقسام، وتم فصل 12 عضواً من اللجنة المركزية هم كانوا قادة الانقسام، كما تم حل لجنة الحزب بمنطقة الجزيرة التي انقسمت كلها. ومنذ تلك اللحظة ضاقت حلقة القيادة التي انتخبها المؤتمر الرابع، مما كان يستوجب عقد المؤتمر الخامس والذي بدأ التحضير له بقرار من المؤتمر الاستشاري والذي وافقت عليه اللجنة المركزية. وكنا من مهام المؤتمر الخامس تطوير استنتاجاته حول قيادة الديمقراطيين الثوريين للثورة الوطنية الديمقراطية والتي كانت من القضايا الفكرية التي استند عليها الانقساميون في وثيقة المؤتمر الرابع الماركسية وقضايا الثورة السودانية. ان عدم انعقاد المؤتمر الخامس كانت له آثار ضارة، كما اشرنا سابقاً، حيث ضاقت حلقة القيادة، وسادت تكتيكات العزلة مثل دورة اللجنة المركزية في مايو 1971م التي رفعت شعار اسقاط السلطة والبديل سلطة الجبهة الوطنية الديمقراطية كمهمة مباشرة وليس استعادة الديمقراطية اولاً باعتبار ذلك هو الذي يفتح الطريق أمام النظام الوطني الديمقراطي، هذا فضلا عن عدم توضيح الوسائل للاسقاط مما فتح الباب للمغامرة والانقلاب العسكري.
من الدروس ايضا: ان المؤتمر الرابع رغم انجازاته في ميدان العمل النظري، وفي تجميع الافكار حول قضية بناء الحزب الشيوعي وتطبيق الماركسية باستقلال على ظروف السودان، الا انه لم يحل قضية القيادة الجديدة التي تجئ لسيادة تلك الانجازات ومعبرة حقا عنها، اي ان المؤتمر الرابع فشل في اختيار قيادة متماسكة سياسياً وتنظيميا وفكرياً، وكانت ازمة القيادة احدي المشاكل الاساسية التي واجهت الحزب بعد المؤتمر الرابع والتي جاءت ضعيفة ومخيبة للآمال، ولم تكن في مستوى المهام السياسية والفكرية والتنظيمية التي طرحها المؤتمر الرابع. ومشكلة القيادة هي التي دفعت عبد الخالق الى تقديم وثيقة (في سبيل تحسين العمل القيادي بعد عام من المؤتمر الرابع) في مارس 1969م للجنة المركزية، اشارت تلك الدورة الى ان (اعضاء الحزب الشيوعي لم يعودوا يقنعون بالحلول السطحية والشعارات الانتهازية لحل مشاكل العمل الثوري وعلى رأسها تغيير مستوى قيادة الحزب، كما اشارت الوثيقة الى خطورة التكتيك الانقلابي (والعقلية الانقلابية) التي كانت سائدة وسط بعض الكادر القيادي، والتي لم تكن اثارها ضارة على الحزب فحسب، بل على البلاد باسرها. هذا اضافة للطريقة الخاطئة التي تم بها اختيار اللجنة المركزية في المؤتمر الرابع حيث قدمت اللجنة المركزية السابقة ترشيحات للجنة المركزية، ولم يتم اعطاء اعضاء المؤتمر الحرية التامة لانتخاب اللجنة المركزية دون قيود، وبعد تقييم كل المرشحين: سلبياتهم، ايجابياتهم، اسهاماتهم وقدراتهم،..ألخ.. وهذا المنهج هو الذي قاد الى الكوارث اللاحقة وما نتج عنه من قيادة ضعيفة، اي ان المؤتمر الرابع فشل في حل مشكلة القيادة، وهذا الدرس يجب اخذه في الاعتبار في المؤتمر الخامس.

No comments: